إليك زياد،
وأعتذر مسبقاً ولاحقاً على هذه الرسالة المتأخرة عن كلِّ شيء… حتى عن الموت!
أنا – لا يهمُّ مَن أكونُ شخصيَّاً – مجرّد فتى جزائريٍّ ينتمي إلى جيل طالتهُ أعطابٌ كثيرة، جيلُ اللحظةِ ما قبل الأخيرة قبل الهلاك. وعَيتُ على عالمٍ مخبول في ما نسمِّيه جزافاً “التسعينيات” في الجزائر (1992-2002)، أو عشرية الدّم والعنف والإرهاب، وغالباً سنوات الظلام والظلامية التي لم ينج منها الكثيرون وإن ظلوا أحياء أو ما يشبه ذلك. الجزائرُ حينها كانت جرحاً مفتوحاً تحومُ حوله جحافل من مصّاصي الدماء والدولارات والأحلام… كان الدمُ مشاعاً في الشارع، في البيت، في القرية، في المدينة، في كل ما يصلح ليكون ساحة حرب لا قوانين ولا أخلاق لها، على أساس أن لكلِّ شيءٍ أخلاقياته بما في ذلك الحرب. لكننا أدركنا ومنذ بداية الانهيار السياسي والأزمة الأمنية ومن ثمّ القتل المجاني والفوضى، أن لا قانون ولا أخلاق سوى قانون الرعب والخوف المطلق.
في تلك الأنفاق المظلمة، وفي لحظات الصمت التي تلي صخب الرصاص تعرّفتُ عليكَ، وقبلكَ سكنتْ أغاني السيّدة فيروز كل أركانِ الحارة والبيت عبر أسطواناتٍ كانت تأتي من فرنسا وحتى من لبنان. رغم أن “الحالة كانت تعبانة”، إلا أنهُ كما كتبتُ في إحدى قصائدي: “كانت تكفينا أغنية واحدة لنقضي شتاءً كاملاً بلا وعي”، والغريب أن أغنية مثل “أنا مش كافر” التي كانت تدورُ في شريط كاسيت مهترئ، في تلك الليالي الباردة، لا تزيدنا إلا وعياً بمأساتنا وبما سيكون عليه الوطن الذي “دمّرناه على شاكلتنا”، ولم نعد نسأل كما المسحوقين: “بالنسبة لبكرا شو؟”
الحالة يا رفيق، جَرَّة أوجاعٍ لا نهاية لها.
وأنتَ تشرع باباً أُغلق منذ زمنٍ، كيف لنا أن نواجه وطناً ينهار؟ تنخره الحربُ والصراعات والمصالح والخيانات؟ تمسّكتُ وأصدقائي – على قلتنا في هذه القرية الصغيرة – بتمرّدك، بسحرك، بفوضاك الخلاقة، وإبداعك الذي كسر كلّ القوالب، بما في ذلك تحدّيك لإرث الرحابنة العظيم، عبقريتك في التجديد والتجريب، أنت الموسيقي والسياسي والإنسان، وقبل ذلك العابث والمغضوب عليهِ والسكران الذي حين يضحك تُقرع أجراسُ فرحٍ غائب، وتُكسر جرَّة الأوجاع لتتدفق أمامنا، في مواجهة مؤلمة وجارحة مع الذات.
كنتُ “كذئبٍ جريح يركضُ في البراري”، وأنا ألملمُ من مسرحياتك وأغانيك وألحانك، ما تبقى من ذاكرة أبطالٍ جزائريين يشبهونكَ، بميولهم اليسارية وحسّهم الاشتراكي وتوجهاتهم الماركسية التي لا تعتبرُ قطعةَ الموسيقى بديلاً لقطعة الخبز! وأن الله يمكن أن يكون صديقَ الجميع، دون فوارق طبقية، وأن التضحيات والعزلة والتغييب جزءٌ لا يتجزأ من النضال الحقيقي. أذكر هنا بشير حاج علي (1920-1991) الذي أحببتُه وكتبتُ عنه، وهو الذي كان يسارياً نقيَّاً حارب من أجل استقلال وحرية الجزائر، وأقسمَ بالولاءِ للوطن مرَّتين، سواء كان السجّانُ عدواً محتلاً أو أخاً صار جلاداً بعد استيلائه على الحكم. أُخبركَ عنهُ لأنه كتبَ في رسائله المهرّبة إلى زوجته: “البحث عن الجمال هو هدف ثوريّ”. ولعلني أضيفُ باسمكَ يا رفيق أنَّ كل هدف ثوري هو بالضرورة إنجازٌ جمالي، يستدعي أن يتحرَّر الشعبُ من “التعسف” الممارس عليه، وهو عنوان أحد أهم كُتب المناضل بشير حاج علي الذي كان أيضاً باحثاً ومهتماً بالموسيقى الشعبية والأندلسية وألّف كتباً ودراسات حول روّاد هذا النوع الغنائي ودراسات عن مصادر الموسيقى الجزائرية والوطنية وآفاقها.
الحالة يا رفيق… لسّاتها تعبانة!
وأنا هنا، كما تعلّمتُ من عبثيتك ولعنتك ولغتك التي تصلحُ لكتابة مناشير وقصائد نثرٍ وشتائم على جدران كلّ العالم، أكتبُ إليك وخلفي آلام الكادحين الذين كتبتَ وألّفت موسيقاكَ وغنّيت لأحزانهم، كيف لأمراء الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990) أن يكونوا محلّ انتقاد في “فيلم أميركي طويل”، وكيف تُفضَح الدولة والعسكر في “بخصوص الكرامة والشعب العتيد”، أما وقد أدرك الكادحون أن صوتهم صار مسموعاً، أصبحَ “العقل زينة” وكل شيءٍ قابلٌ للمجابهة، لإلقاء النّكات عليه، وللسخرية منه.
الغضبُ إن لم يتحوّل إلا أداة للتغيير، بحثاً عن الحلول في سياق “الأفعال” لن يكون سوى حفنة إداناتٍ تمارَسُ كطقسٍ تطهيري. بينما كنتَ أنت تتخلّى، كان الآخرون يستحوذون، وبينما كنتَ تتخفّف، كان الآخرون ينهبون، والمعادلة الأورويلية، في كل مرة، تنطلي على الكثيرين، هؤلاء الذين حاولتَ بأغانيك ومسرحياتك أن تفتح عيونهم على الحقيقة. مع كل جملة موسيقية، مع كلّ عبارة أو لحن، أو حتى جملة اعتراضية في حفلة جماهيرية، رحتَ تعرّي الكذب والخداع السياسي والاجتماعي المتأصل في الطبقات الحاكمة التي لا تتوقف عن الاستمناء والهراء.
الحالة صعبة بعدك يا رفيق.
رغم انسحابك منذ سنوات بعيدة، رغم انشطار الأفكار وضياع البوصلة في الكثير من المحطات الجديدة، رغم انصهار المسافات بين تلك السنوات الصاخبة والملحمية، التي خرجت من رمادها لا كطائر فينيق يضربُ بجناحيه الذهبِيين عرض السماء، إنما كمواطنٍ رافضٍ، بجسدٍ متهالك، كمناضل عتيد، كقدّيس يرتدي بلو جينز ويعيش في غرفته كفيلسوف زمنٍ رديءٍ، كإنسان عاديٍّ يكافح لأجل عاديّته، كواحد من أكثر المؤلفين الموسيقيين براعةً وشهرةً واعترافاً… رغم كل الألقاب والمجازات والإرث العائلي الكبير؛ إلا أنك ستظّل مشروعاً متكاملاً فريداً، يشبه مسوّدة مفتوحة على الموسيقى والغناء والشعر والمسرح والسياسة، مسوّدة لا تخلو من التشطيب والمحو وإعادة التأليف، يمكنُ أن يُستخرجَ منها النص النهائي نقياً جاهزاً، كما يمكن أن تُترك على أصالتها وبكل شوائبها، كسيرة فنية عظيمة لم تُحشر في كتاب، وظّلت كشريط حياةٍ متقطّع له أن يُلامس أبعد الأحلام المشتهاة، أن يجمع في عمر واحدٍ متعثّر بين الموهبة والإبداع والاحترافية والعزلة والمرض. فنّك الذي لم يكن يوماً ترفاً، بل مقاومةً وتعبيراً عن قلق مقيمٍ لدى أجيالٍ بأكملها. أتحدث على الأقل عن جيلَيْ الثمانينيات والتسعينيات وما تلاهما من سنوات عجاف استطعتَ أن تكثّفها في عزفك على البيانو، في كلمات تلك الأغاني القصيرة بمقدمّاتها الموسيقية الطويلة وهي “تُبَرزِخ” الموسيقى بين الجاز الأفريقي القادم من أميركا، والتراكيب والمقامات العربية، خالقاً بتناغم عجيب جازكَ الشرقي المُلهِم.
الحالة في وداعكَ متأزمة يا رفيق.
يقول جيل دلوز: “كل فيلسوف له لحنه”، وأقول من بعد إذنه: “كل ملحّن له فلسفته”، وأنت بألحانك وفلسفتك استطعت أن تجعل من “جارة القمر” جارةً للناس، بكل عظمة وسحر اسمها: “فيروز”، والذي له أن يكون اسماً عادياً يشبه أسماء حبيباتنا الفقيرات، حيث تلتصقُ كلمات الأغاني أثناء عناقهن بثيابنا الممزقة، ولا نخجل أن نردّدها ببطون فارغةٍ وعيون مفتوحة على المجهول، ونحبّ إيقاعاتها المتناغمة مع أحلامنا الهشّة التي قد تتكسَّر جرّاء نسمة هواء.
لن أسألك اليوم “كيفك؟”، و”كم بكرا صار مارق من وقتها لليوم؟”، لن أزعجك بالحديث عن “تاريخ صلاحية” هذا العمر، هذا الجسد… “يا خيي ما بعرف” وأنت مَن يتقنُ قول الكثير في قطعة موسيقية، في أغنية، في جملة مقتضبة، في عبارةٍ غير مكتملة، في تصريحٍ عابرٍ يصلحُ عنواناً لمآزقنا المديدة وخرابنا العميم. ومنا هنا، حيث يصعبُ عليَّ الجلوس والتحرّك بحرّية لأسبابٍ صحيَّة وسياسيّة يطول شرحُها، يصعب عليَّ “الحكي” أيضاً، لأن الحرّية كما تقول “مش إنك تحكي”، الحرّية “إنك ما تخاف تحكي”.
الحالة يا زياد إنَّا نحبّك “بلا ولا شي”.
رحيلكَ ليس رحيلَ رجلٍ انتهت سنواتُ عمره في التاسعة والستين، إنما هو، في ظل هذه المآزق والتراجيديات المترامية، انسدال الستار على طريقةٍ في المقاومة، نهجٍ مركّب وأصيل في مواجهة الظلام – دون التفكير في ما وراء النفق الطويل – بالسخرية والضحك والعبث، باللعب والبراءة والنقاء، بالاستفزاز والمساءلة والالتزام.
“شكراً، جداً، جزيلاً”، والحالة لم تنته بعد يا رفيق.
سلِّم!
*****
خاص بأوكسجين
______________________
* العبارات بين علامتي الاقتباس الواردة في النص هي حوارية بين مختلف أعمال وتصريحات زياد الرحباني (1956-2025) وقصائد مجموعاتي الشعرية الثلاث الأخيرة.