الثالثة صباحاً في قاع المدينة
أنت رسَّامُ خرائط، وأمامكَ مسوَّداتٌ لتاريخٍ لم يروَ. تضعها جانباً وتُحصي أخطاء الماضي المبقعة على جلدكَ، فالندوبُ، عادةً، لا يلاحظها أحد. كان بإمكانكَ أن تغادِرها؛ البلادُ المتأرجحة بين قاتِليْن، حيث تلمعُ الدموع في عينيها؛ المرأةُ التي غادرتك بسؤال أخير: هل فعلاً احترقت الغابات في غرفتك، ليلتَها، أم أنها الذاكرة؟
هنا يبدو كلّ شيءٍ معلقاً،
هنا قصصُنا مقيمةٌ، ونحن عابرون.
أنت رسَّام خرائط، ولا تحتاج إلى مؤرِّخين أو لغويِّين، لترسم المدينة في مساء كئيب مثل الكثير من أمسيات يونيو. قاموسُك صغيرٌ لكنّه يراكم الرعب من أعين ميِّتة تلمع كالزجاج، لقد أرهقكَ الوطنُ الفسيحُ الذي تجوبه كمرشدٍ عالق في مصيدةِ اللغة والتاريخ، تدلُّ القتلى على معاركِهم الخاسرة.
إنها الثالثة صباحاً
مع الرفاقِ في قاعِ المدينة، في بار شعبيٍّ
تدفعُ دبابةً معطَّلة داخل زجاجة.
أنت رسَّام خرائط، وتعرفُ مسبقاً كيف تُهزَم: من نافذة الحافلة، تتأمَّلُ المدينةَ التي تذوبُ مبانيها كقطعٍ معدنيّة في حوض زئبق. هنا تنمو طحالب، هنا يتعفّن خيالك، بينما يمضي الوقتُ كحلزون عنيدٍ إلى نهاياته. “أنا شخصياً، نفد وقتي”. تقول، فيما الأكياسُ البلاستيكية المحلّقة في السماء، غربانٌ تأكل من رأسكَ في يومٍ قائظ.
كُتبت بعد حادث سير يوم 12 أكتوبر 2024
كان يجبُ أن تكون ميِّتاً، لا أن تقفَ الآن لتعُدَّ العيون التي تنظرُ إليك بإعجاب، كما لو أنها تنظرُ إلى لوحةٍ آهلةٍ بالأشباح، أو كأنها تتجسَّسُ على بيتٍ مهجورٍ إلا مِن أطيافِ مَن رحلوا… مَن تركوا ستائرهم ترفرف كألسنةٍ تلعقُ الهواء.
تركوا أناشيدَهم الخضراء، وصلواتِهم العالقة في شقوقِ الجدران.
تركوا أيامَهم التي لا تعدُّ ولا تُحصى.
تركوا ضحكاتٍ تتردَّدُ في أرجاء البيت، همساً خفيفاً في قاعِ الفناجين، أحذيةً ممزَّقة وصبُورَة، قُبلاتٍ يتيمة على السرير، أحلاماً تتدلّى من السقف، وذكرياتٍ صامتةً يعلوها الغبار.
كان يجبُ أن تكون ميِّتاً، لا أن تقفَ الآن لتتأمَّل كل هذه الوجوه المنتَبِهة لالتقاطِ كلماتكَ الهاربة من مراكزِ الاحتجاز. كلماتكَ التي تخترقُ الحواجز والجدران الإسمنتيّة والأسلاك الشائكة. تفلتُ من الحرَّاس ورصاص القنَّاصة وقنابل الجنود المبتدئين. تقبِّلُ ألاف الأطفال في طريقها إلى جنازاتهم، تشاركُ في مظاهرةٍ ستتحوّل إلى نهر من الدماء بعد قليل. قبل أن تنتهي كأسماك نافقة تتخبّط وسط القاعة، كطيور ميّتة تصطدم بزجاج النوافذ، وككلاب خرساء تائهة في أروقة المبنى.
كلماتُك التي وُلدت في السجون ومعسكرات الاعتقال، التي خبرتْ التعذيب والتنكيل والمساومة، التي لم تتخلّ عن حظِّها السيِّء، عن غضبها المتصاعد، وعن جنونها الأزلي؛ هل تصلح لكتابة قصيدة حب؟
كان يجبُ أن تكون ميِّتاً، لا أن تتكئ على شجرة صنوبر تخترعُها الآن، وأنت ترهفُ سمعك لحفيفِ السنابل في صيفٍ تُقرع فيه طبول الحرب كنشيدٍ وطني.
ثمَّة طوابيرُ ممَّن ينتظرون حصّتهم من الخبز، بينما تتعفَّن أطنانٌ منهُ في مخازن يحرسُها الخونة، لتجويع الناس والانقلابِ على الرئيس المنتخب سلفادور أليَندي في تشيلي السبعينيات.
جاء في الخطاب الأخير للزعيم المغدور:
“ليس في كلماتي مرارةٌ بل خيبة أمل”.
ها أنتَ، بدلَ أن تكون ميِّتاً، تتلقى بصدركَ الرصاص الحيَّ، وتمشي مغمضَ العينينِ في حقلِ ألغام، وفوق رأسك تحلّق طائرةٌ مسيَّرة كذبابةٍ عنيدةٍ في عزّ الظهيرة.
تقرأ شِعركَ كمَن يُحرِّك قِدرَ فاصولياء كبير، وابتسامةٌ حزينةٌ لا تفارقه.
كان يجبُ أن تكون ميِّتاً، لا أن تستحضر لحنَ أغنيةٍ وأنت تقرأ.
رائحةُ القرنفلِ وموسيقى “الفادو” تجتاح المكان. لعلّكَ ترغبُ من الحضورِ أن يقفوا فجأة ويغنّوا “غراندولا، المدينة السّمراء” تلك الأغنية المحظورة التي قلَبت صفحة أربعين عاماً من الديكتاتورية في برتغال السبعينيات.
لكنك تفتقدُ لشجرةِ بلوطٍ لا يعرف عمرَهُ في دروبِ المدينة.
تفتقدُ لرفاقٍ تقضي معهم السنواتِ القادمة،
في تحويل شتائم الحيطانِ المهدَّمة إلى مناشير ضدّ الجميع.
تفتقدُ للشهية لتبتلعَ المصائر المحتومة، للجرأة لتبصُق في وجه المستقبل، للرغبة لتكتبَ فقراتٍ سرديّة طويلة تنتهي بحكمِ البراءة، وبأنَّ الحبَّ -على نحوٍ ما- لم يكن يوماً جريمة.
الحرب
إنَّه زمنُ الحرب، وما من زمنٍ سواه.
لقد تلاشت المدنُ التي راهنتَ عليها لتكون حرَّاً، تلاشت الأفكارُ العظيمة التي قرأتها في كتبٍ عن نضالِ الكادحين، تلاشت بلا رجعةٍ قصصُ الحبِّ المعتّقة بنهاياتِها التعيسة الرائعة، تلاشت كذلك الأميال التي كنتَ تقطعها في طريقك إلى النوم.
ضاعت الأسماء والأمكنة والتواريخ.
آخرُها تكنُسه كل صباح كبقايا حلمٍ لم يحدث، قبل أن تزيحَ ستائر النوافذ لتغمرك غيومُ بودلير التي تمرّ، وهذا الوقت القليل لالتقاطِ صورةٍ أخيرةٍ للعالم.
أنتَ من سيغادرُ بحقيبةٍ تصرخُ كفمٍ جائع، بجوازِ سفر أخضر لن يكون طائراً يفردُ جناحيه ليعضّ الهواءَ الثقيل من حولك. لستَ بطلاً خارقاً لتتأرجح بين المباني كبهلوانيٍّ يجمِّد الريحَ بنفَسٍ واحد. لستَ عاشقاً يدركُ خطورةَ أن يبقى على قيد الحياة في معركةِ الحبِّ الخاسرة. لست أمَّاً تروي الحكايات لأبنائها حتى ينعموا بنومٍ عميق، لا يستبدله عدوٌّ بموتٍ أعمق. ولا أباً عاطلاً يبحث عن بلدٍ مفقودٍ في طريقِ العودة إلى البيت.
يصبحُ إله الحرب “أداةً لا معنى لها في يدِ التاريخ” تقولُ الرواية.
يدُك قصيرةٌ لتجتثّ كل هؤلاء الطغاة الضاحكين من رأسك. لتحلمَ بأشجار بنفسجيةٍ تصطفّ على الجانبَين، في طريقٍ تسوقهم إلى ساحة الإعدام.
صدرك أرضٌ منبسطةٌ لدبَّاباتٍ تمزِّق ضوءَ النهار، وهذه السجائرُ الصباحية جنودٌ يلتهمون أصابعَك بنَهَم. وحين تضعُ قدمَيكَ على اليابسة، تتذكّر مدناً مدمَّرةً بالأبيض والأسود، وتتمنى لو عدت ككلبٍ ضالٍ إلى موطنِك الأول.
عيناك تحدِّقان في الوجه القاتم للأشياء، في نصفِ الكأس الفارغ، في الباحة الخلفية لِما انتفتْ عنه تسميةُ الدِّيار، في الجثث المتناثرة على مدِّ البصر، في ساحات الموتِ الشاسعة حيثُ يمارسُ الأنذالُ لعبتهم البغيضة.
فالعالمُ لم يختبر من عنوان رواية تولستوي إلَّا الكلمة الأولى!
علِموا أنكَّ شاعرٌ يدخّن في حربٍ لا تنتهي.
أقاموا المتاريس، وأرسلوا طائرات استطلاعٍ تقتفي أثر ظلِّك المترامي، معتقدين أنك يسوعٌ يمشي على الماء. ظنوا أنّ كرسيَك الهزّازَ خرقٌ أمنيٌّ والكتبَ التي تسبحُ فيها بخيالكَ بحيرةٌ عذبةٌ لا نهاية لها. أمَّا مفكّ البراغي المدبَّب في جيبكَ فوحشٌ آليٌّ ينهشُ لحمَهم الفاسد.
ألقوا عليك قنابل وصواريخ ومناشير كاذبة، جعلوك شارةً يتدرّب عليها جنودُهم الحمقى، بينما كنتَ مشغولاً بوجهها المتغيّر الحزين، بِحَيْرتِها التي تسقطُ كقمرٍ مثاليٍّ فوق هذا الخراب المديد.
ماذا لو كانت الحربُ كما الحب، “تكونُ” ولكن إلى وقت قصير جدَّاً، ثمَّ لا تدوم إلا في الروايات؟
سؤالٌ غبيّ!
يقولُ تولستوي على لسانك.
****
خاص بأوكسجين