كان كريستوف كيشلوفسكي قد عرض المشهد ذاته في موضعين مختلفين من فيلمه المعنون” فيلم قصير عن الحب” (A Short Film About Love)- 1988. أول مرة، في سياق دراما الأحداث الواقعية، وفي المرة الثانية، في سياق متخيّل داخل عقل البطلة.
وجلسنا، نحن، على الكنبة، نفتت عروق رقائق خبز الحنطة السوداء، المنكّه بجبن الماعز وشذرات الحبق، ونتحدث في أمور كثيرة. وكنا نطحن الكلام كما الحبوب الكاملة بين أسناننا، بينما امتد لسانانا يلحسان عن الشفاه، باشتهاء كبير، بقايا مهروس الحّمص المحضّر طازجاً في خلاط بمطبخ البيت، وذلك عبر ضرب الكرات الصغيرة المسلوقة، مع رؤوس الثوم وقطرات الليمون وصب الطحينة العاجية التي لها لون أحلام الشعراء. ثم يغرق المزيج تحت طبقة من زيت الزيتون ونثار الفلفل الأحمر، ويغمّس العشاق فيه أصابعهم، مفتونين بعالم الحواس النابض للمخرج البولندي الشهير.
لقد تحمّسنا لتحليل أشياء كثيرة، لكنّ ثلاثة منها بقيت في ذاكرتي إلى اليوم: تاريخ استخدام كلمة “بطل” في الكتابات عن الأفلام، باللغة العربية، وارتباط ذلك الاستخدام بالترجمات عن اللغات الأخرى، أو بالتركيبة السردية في تراث الشعر العربي، وفيما بعد في الحكايات المحاكة من نسيجه ومن نسيج النص الديني المقدس، والتي يتمركز في جوهرها “بطل” للأحداث، له صفات النبل والأخلاق الكريمة والشجاعة والذود عن أقاربه وأحبته، إضافة الى استعداده لكافة الأفعال الخبيثة باسم الحب والإقبال على “مِسْك المضاجع”.
لقد اهتاجت أفكاري، لكنّها على ما كانت تعتلي قمم الغضب، كانت تعود مباشرة لكي تنحدر إلى قاع اليأس. بصوت حزين ومتعجّل، كمن يريد أن يطوي صفحة لا مجال لها في كتاب الليلة الصاخبة، قلت: في زمن الهزائم الموجعة التي تنام في أسرّة أرواحنا، على لغتنا أيضا أن تتشح بالحداد. لقد مات البطل منذ زمن بعيد، فلماذا تحيا اللغة بطاقة من الزيف؟
وانتقلنا بعد ذلك الى سردية “الحب البولندي”، وبكثير من الجزم المفرط بالجهل وادعاء الدراية، غاصت تحليلاتنا في الارتباط المزعوم بين الحب والعنف في الثقافة البولندية، لكنني خوفاً من النزف في فخ العشوائية، أعدت دفة الحديث إلى المشهدين اللذين قد لا يسعف الانتباه المشاهد لكي يلاحظ الفارق بينهما. فارق ربما يكون كيشلوفسكي قد سها عنه، أو تقصّده. فإن سها فله أجر تحطيم طلب المثالية و”نزاهة الدقة السينمائية”، من قبل صانع أفلام يعد من بين أهم مخرجي سينما العالم، وإن لم يفعل فله أجر تركه الأحاجي الذكية، التي ترمز الى معان، وحده المشاهد النبيه بوسعه أن يتلقفها.
“البطلة” امرأة في نهاية أربعينياتها، فقدت إيمانها بالعثور على حب صادق، واكتفت بالتعويض بعلاقات جنسية عابرة، طويلة القامة، وأحمر شفاهها كما شعرها المنفوخ وكعب حذائها العالي علامات تعلن عن شجاعتها.
لقد اكتشفتْ أن المراهق الذي يعمل في مكتب البريد صباحاً ويوزع زجاجات الحليب على عتبات بيوت الحي بعد الظهر، بينما يتفرغ طوال الليل لمراقبتها عبر منظار موجه من وراء نافذته إلى شقتها في المبنى المواجه، ما هو الا مهووس بتفاصيلها، ولا يحلم بأكثر من قبلة.
ثم قررت أن تمنحه أكثر مما اشتهى بكثير، مدفوعة بتشوش وفضول عاطفيين لامرأة ناضجة، هزها شبق بريء لفتى، لا تزال عضلات معدته مشدودة، وشفاهه تختزنان لوناً زهرياً فاترا ًكما تظهر بتلات الورد في باكر الصباح تحت قطيرات الندى، وعيناه مدى. متّسعتان على الفضول والرغبة بالاكتشاف وتذوّق معنى العيش.
“ما قيمة العيش حين يذوي الفضول وتتلاشى الرغبة الحارقة بالاكتشافات؟”، قلت قبل أن أقفز عن الكنبة: “لقد تذكّرت. عليّ تناول حبّتي التانغالين .. ثوان وأعود”.
في المطبخ، تنهار البطلة في أول نسخة من المشهد، على طاولة خشبية، محبطة من الأماني المخذولة، ومن رغبات الحب المذبوح، ويسجد وجهها على قطعة الخشب، ومن دون انتباه، ترتطم جمجمتها بزجاجة الحليب القريبة، فيندلق السائل الأبيض، ونعرف أنه سال على مقربة من ألمها، وربما خالط دموعها.
نتوقع، نحن المشاهدين ذلك، لكن لسبب ما مجهول، يعرفه كيشلوفسكي فقط، لا نرى السائل الأبيض في اللقطة، إذ إن زاوية التصوير تجعل كتلة رأس “البطلة”، وشعرها الذي بدا مثل باقة زهور يابسة على ضريح لم يزره أحد منذ زمن، على حدود الصورة.
تتسلسل الأحداث. تنتقل البطلة من مطبخ بيتها الى قرب سرير الفتى في” غرفة المراقبة” في شقته. تزوره بعد أن عرفت أنه حاول الانتحار، لأنه شعر بإحراج كبير، وصل حد المذلة لعدم مقدرته (بدافع الحماسة والافتقار للخبرة) على المضي بممارسة جنسية مكتملة و”مرضية”، فتدفّق سائله على عجل. ممدداً إلى جانبها من دون أن يفتح عينيه، تسحب قطعة القماش عن المنظار التليسكوبي الصلب، كامرأة شبقة تعرّي رغبة رجل، ثم تنظر من العدسة الى شقتها، كما كان يتلصص الفتى لشهور طويلة، فتجسد في مخيّلتها مجدداً مشهد الانهيار على الطاولة مرة أخرى، وتتسرب الدموع الحارة من تحت تلك الباقة اليابسة الجاثمة على الإحباط، مرة أخرى، لكننا في هذه المرة، نرى الحليب الأبيض ينساب من الزجاجة، بوضوح.
نراه، نحن المشاهدين، قبل أن يظهر في إطار المشهد فجأة، الفتى بهندامه الأنيق، يربت على جمجمتها، يملس على كتفها، يلتقط يدها، فيغادر وجهها السجود، ويحدّق فيه.
“هذا سائله دافق في مخيلتها. هذا اشتهاء الأمان ينتشل الجوعى إلى الحب، ويمسح دموعهم، ممزوجا بشهوة اللقاء الحميمي”. قال أحدنا للآخر.
شعرت بدوخة. وغثيان!
لا تزال جرعات الدواء في أولها، وتلك التي يسمونها “الكريستالة” الدقيقة في داخل الأذن، تحتاج إلى وقت لكي تعود الى مخدع المسك الذي فلتت منه. أضحك: قالوا لنا إن في دماء الغزال مسك. هل نراه، كيف يهتز خوفا في البرية، مثل لاعب سيرك غير مدرب شحب وجهه على الحبل؟ هل ننتبه إلى الذعر الذي يبديه لمجرد تنامي صوت رهيف لحسه؟ هذا الغزال الذي رسموه في قصص أطفالنا جميلاً وبريئاً وعذباً ليس سوى مخلوق فاقد الاتزان تحت جلده ألف رُهاب.
ماذا في تلك الكريستالة اللؤلؤية المخبأة في قلب صدفة آذاننا؟ رسائل بحر سرية، هي؟ وعود البطولة المنسية؟ أم ذلك البطء اللزج للعيش، الذي يسمّى الضجر، حين يجدر استدعاء الشفقة، في حضرة الوقت المقفر، وطرقات كعب الحذاء المتظاهر، ولهفة الشفاه المصبوغة بأحمر مثل نداء عاجل لعربة اسعاف.. ماذا لو مددت أصابعك وانتزعتها؟ هل هذا الصمغ قمامة ذابلة من مسك مخفي ومتجدد في الداخل؟ في عمق آذاننا الوسطى التي تمنحنا الاتزان.. ربما يكون المسك هو الاتزان!
وأنا على العكس أرى الاتزان علقما. وأنشد الفتوّة والطيش والهوس في كل لحظة. الفضول هو مدرّب شد العضلات الفعّال الى الأبد. هل تأملت في وجوه المحرومين؟ ستجدها مسنّة مهما كان أصحابها صغارا في العمر. والعكس صحيح، كم من عجوز يفور من وجهه الشباب لأنه يشحذ عقله كل يوم على سندان الفضول، والسعي للاكتشاف، وتقفي أثر الحكايات على الدوام.
.. وأبي..
أتحسس وجنيته. أغمر صفحة وجهه بكفيّ وأترك للأنف مسربا ومرآة لعينيه الصغيرتين الخجلتين من تلقي طاقة الحب، على أصابعي. أدلك بأطرافها خديه. ألاعبه. أظن أن بوسعي أن أشحذ رؤوس الوبر الأبيض بطاقة من الحب والأمل تتسرب من الشعيرات الى جلدة الوجه، فالجمجمة، فلبّ الدماغ. أظنّ أنني بحركتي هذه أفعّل إشارات كهربائية مباغتة تطرق على أبواب ذاكرته بتصميم وقوة وإرادة، مثل طاقة مهاجرين عادوا أخيرا من غياهب الارتحال ليدقوا على أبواب سور مدينتهم بقبضات غاضبة وراغبة.
أسدد قبضتي الى ذلك “الاتزان” القبيح الذي حلّ في رأس أبي، منذ أن عزلناه في بيت بعيد، على حدود هلع كورونا، خوفا من تسلل الفيروس المخيف إلى صدره، ولم ننتبه الى لصوص العزلة، يتقافزون إلى مخادع الكبار المعطرة، ويلاعبونهم مثل أبطال سيرك محتالين، وفي غفلة عنهم، يغرفون مسك الذاكرة، كدبب شرهة تغرف العسل، ويتركون مكانه فجوة.. الاتزان!
أشعر بالسخونة فقط على رؤوس أصابعي.
كم تمنيت لو أنها تدفقت إلى الكهوف التي تجلّدت في دماغ أبي، بعد أن تغيّر مناخ الأيام كلها واشتدت أعاصير الخوف وأنهكت الروح، وأذابتها. لكن، غالب الظن، السخونة باقية فقط في سجن أصابعي. أشعر بإحباط.
لو عاد لي الأمر، لعشتُ بشخصية ذلك الفتى في كل حين. بحثت عن الهوس وراء كل عتبة. قرأت كل يوم كافة رسائل البريد وبحثت في حكاياتها عن الأبطال. تلصصت على كل النساء وكل الرجال وفككت شيفرات عريهم لكي أصنع أبجديتي الخاصة بلا انقطاع طوال حياتي. كنت لآكل أطنانا من الحمص وأبتلع كل الزينك الذي فيه وأفيض بلا نهاية، خلاصاً مسترسلاً على ألواح الساعات المضجرة. كم يأكلني الندم الآن! كان علي أن أعيش دافقا في كل لحظة، قبل أن تغادر الكريستالة محارة أذني ويصبح كل شيء باهتاً وحامضاً كمذاق “التنغالين” تحت اللسان.
لا يزال في العيش متسع طويل.
والمسك؟
ليس في أذنك. ليس في عقلك. ابحث عنه في قلبك. هناك حيث يدلق صانع صور الأيام، السائل الأحمر كل ثانية، لكي يشتعل الفضول.