كلوديا وفاتن … العمر والمناديل!
العدد 270 | 03 حزيران 2022
إبراهيم توتونجي


 

كنت في الثانية والثلاثين من عمري، أي في بداية العقد الذي يصبح فيه أمرؤ مثلي راغبا ًبملاحظة ظاهر أكف كبار السن: عروق نافرة، نقط بنية تميل إلى الداكن، ارتجافات لا شعورية، ورغبة في ضم الكف بقبضة تشد على شيء بداخلها لا يراد له الفقد. قد يكون ذلك الشيء على مثال الصبا أو الجمال، أو الذكرى أو الأمجاد المنصرمة… أو الأُنس … أو ربما يكون ذلك الشيء هو الحياة برمتها. على أي حال، إنه ما يتجسد في الغالب على شكل…منديل!

حين يتقدم بنا العمر، تصبح لنا علاقة غريبة بالمناديل، نكومها داخل قبضاتنا، ننقلها الى جيوبنا القريبة من صدورنا، ندسها تحت الوسادات مثل أشلاء أحلام مهيأة لكي تنقذنا بعد جثوم النهار… نجعلها أليفة وواقية، كأننا نتهيأ، في أي لحظة، لكي يغالبنا ما يستدعي الرثاء وذرف الدموع.

كأننا نعرف أن سنوات، سنعيشها، قد يكون عنوانها الأبرز “الحصار بالفقد والفقدان”، وأنه ليس بوسعنا إزاء هذا الحصار إلا أن نرفع مناديل الاستسلام البيضاء.

 

***

 

لقد انتبه مخرجو السينما، الباحثون دوماً عن جبهات الحصار الإنساني تلك، إلى العلاقة بين العروق النافرة المتصلبة للأكف وبين ألفة المناديل. في السينما المصرية، يسطع مشهد من فيلم سعيد مزروق “أريد حلا” (1975). أمينة رزق وفاتن حمامة، سيدتان من جيلين مختلفين، ألقت بهما، في رواق “محكمة الأحوال الشخصية”، المعاناة من سلطة الرجل المريضة، في مجتمعات يكتب فيها الرجال القوانين، ويسخرونها غالباً، لضمان الإبقاء على جذوة تلك السلطة حارقة حد التفحيم. حتى الرماد الناتج عن الفحم لا يذر في عيون الذكورة ولا يكفي، اذ من تحته يشتعل أيضاً الاستشراس ضد المرأة إن حاولت التصدي لحقوقها، والانتصار للكرامة. تسحب أمينة المنديل، تبكي، تكوره في كفها، تمسح دموعها، تبكي من جديد.

بعد سنوات، سيتذكر مخرج مصري آخر، هو داوود عبد السيد، تلك الكيمياء الخاصة التي ولدت من ذلك المشهد، جراء لقاء عملاقتين في التمثيل، تجسدان معاني القهر بحرفية عالية، اتقدتا في لحظة فوران أنثوي يفصح عن القهر بمعناه الاشمل.

عبد السيد، الذي لطالما نبذ الذل الذي تتعرض له إحدى أرقى صور الحياة بنظره، المرأة بتجسيدها ديمومة الطبيعة وعذوبتها، استغل فرصة اجتماع فاتن وأمينة مجددا في فيلم آخر قام بإخراجه هو “أرض الأحلام” (1993)، ليعاود الشد على عروق المنديل، هذه المرة في مشهد تودع فيه ابنة أمها على سلم “دار العجزة” الذي دخلته طوعاً لا قهراً.

 

***

 

لو كان للمناديل التي تلتقطها المنظفات في دور المسنين والعجزة، في مناوبات التنظيف اللاتي يقمن بها للغرف والممرات وأماكن الجلوس العامة، ذات الستائر الزرقاء الداكنة والعسلية والبيضاء المخرمة…لو كان لها ألسنة لسرد الحكايات، لقرأنا أكثر الروايات تأثيرا عن الذين يدسون في المناديل ما ليس بمقدورهم البوح به.

 

***

 

كنت في الثانية والثلاثين، والسيدة التي التقيتها في مصعد فندق “قصر الإمارات” في أبو ظبي، كانت ترتدي جاكيتة حمراء ونظارة مظللة، بينما شعرها، رغم قلة كثافته البادية، كان جذاباً وعابقاً بالألق والعطر، وكانت في منتصف عقدها الثامن، من دون منديل، وظاهر كفها معتنى به بتؤدة، كأنه قطعة ثمينة تدلل على تاريخ من الجاذبية كان ذات يوم لكل أعضاء الجسد المتصل به، والتي تختفي بمعظمها الآن وراء قماش الملابس.

 لم يكن من السهل عليّ أن أتعرف على هيئة نجمة السينما والأناقة وجسد الإغراء في زمنها… كلوديا كاردينالي!

كنا قد تشاركنا المصعد صدفة بهدف الوصول الى المكان الذي سيجمعنا بعد دقائق مجدداً، اذ انني كنت على موعد مع لقاء صحافي معها. كانت قد حلت ضيفة على “مهرجان أبو ظبي السينمائي” الذي كرمها بجائزة إنجازات العمر وعرض آخر أفلامها آنذاك “جيبو والظل” للبرتغالي موانويل دو اوليفيرا الذي أخرجه وهو في عمر الـ 103 سنوات!

كنت قد عينت مسبقا المفاتيح التي أود استخدامها برفق، وإن بفعالية وسرعة مستفيدا من ضيق الوقت المحدد لي معها، للنفاذ إلى قلبها مباشرة والحصول على كلام من داخل هذا القلب. فحين تحاور امرأة في منتصف السبعين من عمرها، أجرت آلاف اللقاءات الصحافية على مدى عقود، سيكون من السخف سؤالها عن حبها للسينما وتجربتها مع فيلليني وجسد المرأة في البلاتوه ونظرتها الى سينما اليوم وما إلى ذلك من الأسئلة الصحافية التي تودي إلى إجابات مغسولة ومعلوكة ومنشورة حتى البهتان.

سألت كلوديا عن موقفها من ثورة تونس (كان قد مضى وقت قليل على اندلاعها آنذاك) وعن سبب دعمها للمثلية الجنسية في آرائها ومن خلال بعض أفلامها وعما إذا ما كانت، وهي في هذا السن المتقدم، ترى أمها في نومها، وهو السؤال الذي جعلها تبحث عن منديل. تمحورت الأسئلة بمجملها حول مكمن واحد عثرت عليه في شخصية كاردينالي: المرأة الثائرة والعذبة في آن!

بعد فترة، اقتطعت من الحوار معلومات وضعتها في خبر صحافي نشر يوم 13 نوفمبر 2012 في صحيفة “البيان” الإماراتية تحت عنوان “كلوديا كاردينالي: لن أنسى جذوري التونسية ما حييت” ومما جاء فيه:” صرّحت النجمة العالمية كلوديا كاردينالي أنها دعمت “ثورة تونس” عبر الترويج لمقاطع فيديو التقطها الثوار عبر هواتفهم النقالة وانتشرت في باريس، في ديسمبر 2010. وقالت كاردينالي، الإيطالية، الفرنسية الجنسية وتونسية المولد، في حوار شامل أنها لم تنس يوما جذورها التونسية، وهي إن قررت ذات يوم الاعتزال والهروب الى مكان، بمفردها، لن يكون غير “حلق الوادي”. وكشفت أن مناصرتها لحقوق المثليين جنسياً لا يمكن فهمه موقفا ضد المؤسسة الزوجية والانجاب، بل هو جزء من تكوينها ورسالتها في “دعم التحرر والخيارات الشخصية”. وكانت قد تزوجت مرتين وأنجبت ابنين. وقالت النجمة التي لقبت ذات يوم بـ” فاتنة الشرق” بأنها، وهي في الخامسة والسبعين من العمر، لا تزال تشعر بخوف كبير في مواجهة الكاميرا، وأنها تشعر بحنين هائل الى والدتها: ” أقوم باستحضار صورتها في الليل، كي تزورني في المنام”. وروت كاردينالي أن والدتها “كانت امرأة صاخبة تغني طوال الوقت”، بينما كان والدها هادئا يشارك زوجته بالعزف على الكمان:” كانت طباع والديّ متناقضة وهذا هام في العلاقة الزوجية…”

 

***

 

أجلس قبالة منير الملائكة، ألاحظ ظلال الشجرة تتحرك ببطء مع ضوء وقت ما بعد الظهيرة الذي يزيد من دفئه مشهد اللوحات والصور القديمة المنتشرة حولنا، وصوت محمد عبد الوهاب يغني قصيدة بشارة الخوري:” الصبا والجمال”. الأستاذ منير يحرك طرف رجله الملتوية بسبب ضعف العظام وترققه، مرافقا صعود عزف البيانو عند مقطع:” فاسكبي روحك الحنون عليه، كانسكاب السماء في عينيك، كلما نافس الصبا بجمال، عبقري السنا نماه اليك”. ثم يشد بكفه على طرف ركبته ويغرق في ذكريات ذلك البيت البغدادي الكبير الذي ولد فيه عام 1922 ضمن عائلة مديدة من بين أفرادها صديقته وابنة أخته نازك الملائكة. ذلك البيت الذي لم يبق له وجود اليوم كما لجل بغداد التي عرفها منير في بداية ثلاثينيات القرن الماضي. تربى فيه على أفكار الانفتاح والتقدّم، وروعة الشعر وألق الموسيقى ورقي الحياة. كان قد حدثني، بعد أن أكلنا مناقيش جبلتها لحم وجبن، ثم لفائف الكنافة، عما يتذكره عن سنيه الأولى البعيدة: “في الروضة التابعة لدار المعلمات، كنا صبيانا وبنات، مجتمعين في مكان واحد، كانت صديقتي التركية غوزين عبد القادر الوجدي شريكتي في اللعب. كنا في بيئة منفتحة، بيتنا له بابان، باب على شارع الامام طه وباب على شارع الرشيد. كل باب على عقيدة مختلفة. اختلطنا بكل مظاهر الاختلاف الجندري والطائفي منذ نعومة أظافرنا. من هنا نبت شعر نازك وشعر جميل الملائكة أخي وأيضا نبتت أفكار شكلت علماء وسياسيين مرموقين. كل من كان في هذا البيت مات. أنا الآن في عمر التاسعة والتسعين. تلقيت طعم كورونا كاملاً لكي أتمكن من الخروج مجددا إلى الحديقة وتكوين صداقات جديدة. كنت قد اشتقت كثيراً إلى الحديقة، إذ مُنعت من الوصول إليها لأكثر من عام”.

على أطراف خديه احمرار ضئيل لكن ملفت، لأوردة رجل لا تزال تشتعل كلما ذكر بيت الطفولة واستمع الى أغاني عبد الوهاب القديمة. وبينما تهتز رجله على وقع الطرب يخرج منديلاً رطباً ويمسح أرنبة أنفه من دون إحداث أي صوت يخدش قدسية معبد الموسيقار.

 

***

 

“العمل مع موانويل دو اوليفيرا، وهو في هذا العمر المتقدم، ويذهب كل يوم لممارسة الرياضة قبل حضوره الى الاستوديو، جعلني أشعر، وأنا في منتصف السبعين، بأنني لا زلت صغيرة”، قالت لي كلوديا.

 

***

 

يقرأ لي منير رسالة كتبها بخط يده الواضح والمنساب، يستعيد من خلالها ذكرى جمعتنا قبل ثلاث شهور: “يوم بلوغي التاسعة والتسعين من العمر، قبيل أيام قليلة، غمرني عدد من الأصدقاء بكرمهم ولطفهم بمفاجأتي بزيارتهم مع الورود والشموع والموسيقى والهدايا والمأكولات الطيبة، فكانت سهرة رائعة ممتعة وذكرى لا تنسى، سيما لمن وصل الى هذه السن المتقدمة التي يكون فيها في معظم الحالات وحيداً فقد معظم أقرانه ليعيش على ذكريات الماضي وتصفح ألبومات الصور محاولا اشغال نفسه بأي شيء لملأ الفراغ الهائل الذي هو فيه… وقد نظمت قصيدة شاكراً الأخوة والأخوات على هذه المكرمة الطيبة التي جعلتني أشعر وكأنني لا أزال شاباً في السبعين من العمر”!

خلال الأيام الأولى لاجتياح العراق، أودت قذيفة بحياة زوجة منير، وكانت جالسة الى جانبه على مقعد السيارة، وكان “شابا” قد تجاوز السبعين، فهجر بغداد إلى دبي، وعاش على مقربة مني في “حي الحدائق في جبل علي”، ولا تزال أغاني محمد عبد الوهاب وأم كلثوم و أقداح الشاي الأخضر والظلال والمناديل ولقاءات الجمعة وذكريات العراق تشكل صور جيرتنا.

ودعت منير وكان يحدثني عن أمه “الشاعرة والزعيمة القوية” وكنت ألمح في عينيه دموعا تستحضرها سيرتها، بينما كنت أحدثه عن فيلم شاهدت جزءا منه صباح اليوم، مبني على قصص ادغار آلان بو:” أرواح الموتى” (1968) من اخراج ثلاثة مخرجين بينهم فيلليني، وعن قوالب الجسد الشهية المصبوبة كتماثيل الهات الاغريق للممثلتين جين فوندا وبريجيت باردو وقد كشفتا فيه عن أجزاء من الجسد الشهي أكثر مما كشفتا من موهبة تمثيل!

كلوديا كان لها أيضاً جسد نادر في جماله تألق منذ نهاية الستينيات حتى منتصف السبيعينات. وفي الفترة ذاتها تقريبا التي عرض فيها فيلم سعيد مرزوق “أريد حلا” تظهر صورة التقطت في “مهرجان القاهرة السينمائي” عام 1976 جمعت بين كلوديا ونادية لطفي وسعاد حسني ونبيلة عبيد منافسة حامية في لحظة فوران أنثوي من نوع آخر على السجادة الحمراء!

ضحكت مع منير وافترقنا.

في الطريق كنت أتخيل أشكال أكف كاردينالي وفوندا وباردو وعبيد في هذه اللحظة من هذا اليوم، الذي شاهدت في أوله جزءاً من “أرواح الموتى”، وزرت في منتصفه بيت منير، وكتبت مع غروب شمسه هذا النص، وهو اليوم الذي مات فيه الممثل المصري عزت العلايلي، وهو اليوم الثاني الذي تلا تلقي لأول جرعة من لقاح “كوفيد 19”.

 

***

 

حال عودتي الى البيت، تفقدت رسائل مسجلة من أمي على هاتفي، كانت في إحداها تخبرني عن الارتفاع الجنوني الذي طال أسعار “الفيتامين سي” في لبنان، وفي أخرى تسألني بتأثر ان كان في نيتي جمع كل رسائلها الصوتية وتخزينها في مكان آمن لكي “تتذكرني لو رحلت”، كما عرفت أنها باتت تبذل مجهودا في الضغط على زر تسجيل رسائلها لي، اذ أن تلفا قد نال من جزء كبير من شبكة أعصاب يديها وحجّر أصابعها وأقفلها فبرز ظهر كفها كأنه نتوء حجري نقشت عليه إشارات وتذكارات وخرائط.

 

***

 

يتردد في بالي صوت كمان والد كلوديا كارديناللي يعزف لحناً حزيناً. أتعرف على لغتي وذاكرتي وشبابي وقوتي وعجزي في تذكارات النتوء. يمضي الإيقاع حزيناً. أقرأ من قصيدة لادغار آلن بو:” إنني أشعر في أعلى الفراديس بأن لا قدسية لكلمة أكثر من كلمة واحدة: أمي”!

 

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وصحافي من لبنان، ومن المساهمين الأوائل في الكتابة في أوكسجين.