ذكرى إسطنبول المتأخرة
العدد 269 | 21 كانون الثاني 2022
إبراهيم توتونجي


ما الأيام؟ شاهدة على عجزنا، نضرة باستمرار، بينما وجهي صار أكثر نحولاً، وكتلة أمي أكثر انكماشا، وأبي يبحث عن الجدران حوله كي يتكىء. وحين أغمض عيني وأتذكر إسطنبول انتظر طويلا قبل أن استحضر الذكرى، لأن ثقلا يقيم في جفوني، وثمة انسداد في فتحتي أنفي، أظنه مسؤولاً عن عدم إيصال الأوكسيجين بشكل كافٍ الى دماغي. لقد اختفت من رأسي كل الغيوم المضيئة والابتسامات المتفتحة في الحقول الذهبية لدوار الشمس، كما تبددت تلك الحماسة التي كانت تميزني وتشعل الأماكن التي أحل فيها طاقة وفرحا وتحفيزا للآخرين. تتأخر ذكرى إسطنبول، ثم تتخطف صور مبعثرة من “الأيام المشهودة”: أترك أبي يعبر وحده على جسر المشاة بين رصيف السفن وبين “البازار”. أبتعد عنه. يصعد عتبات الدرج الاسمنتي ويتحرك وسط الجموع المتدفقة بحركة بطيئة. يلتفت خلفه لا يجدني. يستمر في المشي. يعرف أنني قد أنضم إليه بعد قليل، كعادتي، أتأخر لأتحدث مع صياد أو أتأمل ورود الغجرية أو أرمي فتات خبز لنورس. لكنني بعيد عنه، لا أصعد إلى الجسر. أردت مدفوعا برغبتي في تسجيل انفعالات حقيقية لأبي، أن أتركه مع نفسه، وأتلصص عليه بعدسة الكاميرا من بعيد.

الآباء لا يعبرون عن الذعر في حضرة الأبناء، في العادة. هذا من أدوار الأمهات. هكذا اعتقدت منذ أن كنت طفلا وتأكدت أكثر حين كبرت. أبي مستمر بالتباطؤ رغم أن التمهل في المشي على جسر بين البحر والبازار في مدينة مزدحمة مثل إسطنبول هو فعل مخاطرة، اذ إن السيل البشري الذي لا ينقطع بوسعه أن يدفعك من كتفك أو ظهرك، فتتعثر خطاك. إنه يعبِّر عن قلقه بالتباطؤ لكنه لا يقف لكي ينادي ولا تتخثر على محياه الانطباعات فيظهر دهشة أو صدمة من تأخر ظهوري. فقط هو يعرف أنه لن يضيع، وأنه في مراحل كثيرة من حياته الشاقة، منذ أن ترك المدرسة في عمر التسع سنوات، وتلقفته مراكب الرحيل من ضفة صحراء إلى ضفة صحراء أخرى، لم يفقد البوصلة يوماً. بوصلته الداخلية مضبوطة على الدوام تجاه قطب واحد: العمل.

تأتي الحرب. لا يشتكي. يأتي الأبناء كثرا. لا يشتكي. يتناثر زجاج كل واجهات بيتنا، ومن بينها واجهة البلكونة الصغيرة المحفورة عليها أشكال ورود، والتي أحبها وأنام في ظلالها حين لا تحوم الطائرات الحربية في السماء، ثم يلملم النثر قطعة قطعة ولا يشتكي. تموت عمتي، في مركز عناية بالعجزة المصابين بالزهايمر، ويموت عمي رفيقه في الورشة على مدى سنوات كثيرة، ولا يشتكي. وأسافر بعيدا عنه، مكررا، وان في ظروف مغايرة، سيرة ارتحاله، ولا يشتكي. طالما هنالك خبز وعمل فلمَ الشكوى؟

في اليوم ذاته الذي تمشينا فيه على الرصيف البحري وخزنت في جيوبي الأنفية التي كانت لا تزال فتية وتعمل كما يجب، كل الروائح العابقة في “البازار” من سماق وصعتر وشمر وورد ورمان مجفف، زرت مع أبي أيضا أحد قصور السلاطين المسمى “دولما باتشي ساراي”، حيث صعد الكثير من الدرجات، ودلف إلى الكثير من الممرات، وسدد خطاه في كثير من الغرف، وهناك، بعد أن فرغنا من الجولة طلبت منه أن يكتب على تذاكر الدخول الى القصر وقسم الحريم والحديقة بضع كلمات تؤرخ لتجربتنا سويا، فكتب:” من الأيام المشهودة التي لا تنسى، كانت رحلتنا الى استمبول في صيف 2007.. وقد أخذنا بروعة هذه المدينة العريقة وبحضارتها السابقة والحالية وفخامة السياحة بها”..

في دبي، ذات ليلة، بعد مضي نحو ثلاث عشر عاما على رحلتنا، عثرت على هذه التذكارات، بينما كنت، بالصدفة أشغل نفسي عن الأرق مقلبا في ألبومات صور كثيرة. تأملت في الكتابة. بطريقة خطه واختياره المفردات. شكل كتابة “استمبول” بتاء لا بطاء، وتركيبه اللغوي، وابتسمت لطريقة رجل ترك المدرسة مبكرا، لكنه لم ينقطع عن قراءة الكتب حتى تجاوزه العقد السابع من عمره، حين باتت عملية التركيز على السطور المتماسكة تذهب بتماسك دماغه فيشعر بدوار. لقد غرق أبي أولا في دوامة الدوار، ثم في دوامة الغثيان، ثم في دوامة النسيان، ثم في دوامة تضاؤل قدرته على التحكم بوظائف جسمه الحيوية مثل المشي وردود الأفعال وأشياء أخرى.

هل يخجل؟ حين تخذله “الأشياء الأخرى” في سريره أو على طرف رخامة المقعد في الحمام، فيما أمي تختلط ردود أفعالها بين الغضب والشفقة والأسى والتعب، وأحد أخوتي يستمر بالقيام بعمله مثل ممرض اعتاد على مهمته ولم تعد يزعجه الاحتكاك بأجساد كبار السن المليئة بالنتؤات الدهنية والنقاط البنية والتقرحات.. عاريا من اعتداده بنفسه، ومخذولاً من نضارة الأيام، ومن تبدد الفتوّة الخاصة بالجيوب الأنفية والشعيرات الدموية والخلايا الدماغية، ومثل قبطان منسي على جزيرة مهجورة، شائخ يحمل بوصلة صدئة لا يتحرك عقربها، هل يخجل أبي؟

هو لا يعبرّ، لكن أمي، أرسلت لي رسالة قبل أيام، من قريتنا التي ينهمر عليها الشتاء ويضخ مناخها بردا جليديا على درجات بيتنا وفي الممرات والغرف، يجعلني خائفا على تأثيره على رئتيهما، وتحمل عظام جسديهما، أنه استحضر كلمة “الموت” ونطق لأول مرة أنه يرغب بالموت في مدينته لا في القرية حيث رتبنا لجوءه مع أمي، انعزالا لهما ووقاية من خطر الوباء المستشري منذ سنتين.

أبي يتحدث عن الموت؟ لم أسمعه يفعل ذلك طيلة حياتي ولقاءاتي معه. لم نتحدث عن الموت سوى مرة واحدة، قبل عشر سنوات ربما، في المقهى المطل على البحر، في مدينتنا، والذي كان ذات يوم صالة سينما تردد عليها أبي منذ أن كان عمره ثلاث سنوات، محمولاً على كتف جدتي لأول مرة. في مدن البحر الفقيرة، حيث يترك الملح آثاره على الحجارة الرطبة لبيوت الصيادين والنجارين وبائعي السحلب والعرق سوس على العربات وصانعي الحلوى من ثمرة اليقطين ومدخني النرجيلة الشرهين في أقبية كانت في الأساس زوايا لبيات الدواب في أزمنة ماضية.. يهرب البسطاء إلى صالات السينما لكي يجددوا خيالاتهم واحلامهم، ويبددوا الملح عن وجه أيامهم، غارقين في نضارة مؤقتة، يزول مفعولها بمجرد انتهاء الفيلم بأغانيه واستعراضاته وعدو أبطاله على الخيول، لكن مفعول خدره الساحر يبقى مستمرا.

قال لي آنذاك:” أنا لا أخاف من الموت. تدّعي أمك أنني لا أتأثر لموت أقاربي، وأنني بعد الدفن، أشاهد التلفزيون وأستمع الى أم كلثوم، وتتهمني بأنني واقعي الى حد التبلد وفقدان الإحساس، وهذا كله خاطئ، لكنني لا ألومها، لأن لا أحد يعرف ما الذي يجول في داخل الآخر، في داخلي”.

لم أعرف أنا أيضا، على مدى أكثر من عقدين خصصت خلالها أوقاتا من أجل التحدث الى أبي، أمام الكاميرا، أو فوق مسجلة، ما الذي يخبأه حقا في داخله، وكنت أندهش من قدرته الفائقة على اظهار الاتزان طوال الوقت وبعض الحكمة والكثير من النكات المغلفة برغبته بمعانقة الحياة وحبها والاستماع مئات المرات الى أغنية “الربيع” لفريد الأطرش أو “كل دقة بقلبي” لنازك أو “الجندول” لمحمد عبد الوهاب والبحث عن زهرة في محيطه يعلقها في عروة قميصه أو خلف أذنه، فيبدو مثل رجل يليق بلوحة فنان مكسيكي، أو بمشهد عذب ومغوي لمارلون براندو في أحد أفلامه.

في عمر الثانية والثمانين، بعد أن أقعده المرض وعطالة العمل، ثم عزلة الجائحة، بات أبي غير راغب بالاستماع الى أم كلثوم، ويسألني عن “ماذا بعد؟” في تخطفات بئر النسيان، حين تختلط الأزمنة ويختل تسلسل الأيام وتفوح رائحة من نظريات الفيزياء الكمية التي لم أتمكن يوماً من هضمها. يظن أبي أنه لا يزال يعيش في بيت طفولتنا ذي البلكونة المزججة بنقش الورود، والذي غادرناه قبل ثلاثين سنة، ويسألني عن “زبون” ورشته الذي جاء يسأله عن تصليح سيارته لكن أبي وجد نفسه وحيدا بلا مساعديه، ومن دون قطع غيار كافية، الأمر الذي أزعجه وأشعره باحراج جم، فهو لم يعتد على رد زبون طوال حياته، بل اضطر في أيام كثيرة أن يعمل ليل نهار، وفي ظروف صعبة وخطرة لم تخل من كونها معارك أحياء يرشق فيها الرصاص العشوائي على واجهات المحال في “المدينة الصناعية”.

خارجا من غرفته، بعد أن أغطيه بلحاف ثقيل لصد البرد، وأطبع قبلة على جبين وجهه الشاحب، أفكر بمعنى الزمن والذاكرة و” الأيام المشهودة” وأمشي في الرواق الذي يصل غرفته بالمطبخ، بخطى متباطئة، ووجل حزين، وإن واع، كمن يتوقع أن أحدا ما يلتقط له صورا من بعيد، ثم أفتح كفي باحثا عن بوصلة الخبز والعمل والأيام المشهودة.. فألمح خطوطا غائرة في صفحة يد باتت أكثر خشونة!

*****

خاص بأوكسجين

 

 


كاتب وصحافي من لبنان، ومن المساهمين الأوائل في الكتابة في أوكسجين.