شاطئ
العدد 210 | 09 نيسان 2017
روبرتو بولانيو


تخلّيت عن الهيروين وذهبتُ إلى المنزل وبدأتُ علاج الميثادون الذي يدار في العيادة الخارجية ولم يكن لدي شئ آخر لأقوم به سوى النهوض كل صباح ومشاهدة التلفزيون ومحاولة النوم في الليل، ولكنني لم أستطع، جعلني شيء ما غير قادرٍ على إغلاق عيني والاسترخاء، وكان هذا روتيني، حتى جاء يومٌ لم أحتمل فيه ذلك واشتريت لنفسي سروال سباحة من متجر في وسط المدينة وذهبت إلى الشاطئ، مرتدياً السروال ومعي منشفة ومجلّة، وفردتُ مِنشَفَتي على مسافة ليست ببعيدة عن الماء ومن ثم استلقيت ومكثت قليلاً أحاول أن أقرر ماذا إذا كنتُ سأنزل إلى الماء أم لا، كنت قادراً على التفكير بأسباب كثيرة للنزول وأيضاً ببعض الأسباب لعدم القيام بذلك (الأطفال الذين يلعبون عند حافة الماء، على سبيل المثال)، إلى أن أصبح الوقت متأخراً في النهاية وذهبت إلى البيت، وفي الصباح التالي اشتريت واقياً من أشعة الشمس وذهبت إلى الشاطئ مجدداً، وفي حوالي الثانية عشرة ذهبت إلى العيادة وأخذت جرعتي من الميثادون وقلت مرحباً لبعض الوجوه المألوفة، ليسوا بأصدقاء، وجوه مألوفة فقط من طابور الميثادون الذين كانوا متفاجئين من رؤيتي بسروال سباحة، ولكنني تصرفت وكأنه لم يكن في الأمر غرابة، ثم مشيت عائداً إلى الشاطئ وهذه المرة ذهبت لأغطس وحاولت السباحة، لكني لم أستطع، وكان هذا كافياً لي، وفي اليوم التالي عدت إلى الشاطئ ووضعت الكريم الواقي على جسمي كله ثم نمتُ على الرمل، وعندما استيقظت شعرت أنني ارتحت بما فيه الكفاية، ولم أحرق ظهري أو أي شئ، واستمر هذا لأسبوع وربما اثنين، لا أذكر، الشيء الوحيد المتأكد منه أنني في كل يوم كنت اكتسب مزيداً من السمرة ورغم أنني لم أكن أكلم أحداً شعرت في كل يوم بأنني أفضل، أو مختلف ، وهو ليس الأمر نفسه لكن في حالتي يبدو على هذا النحو، وفي أحد الأيام ظهر زوجان عجوزان على الشاطئ، أتذكر ذلك بوضوح، كأنهما معاً منذ زمن طويل، كانت سمينة، أو عريضة، وعلى الأغلب في حوالي السبعين، وكان هو نحيلاً، هيكلاً عظمياً متحركاً، أظن أنني لاحظته لهذا السبب، لأنني في العادة لا ألاحظ الناسَ كثيراً على الشاطئ، لكنني لاحظتُهم، لأن الرجلَ كانَ نحيلاً للغاية، رأيته وخفت، اللعنة، إنه الموت قادمٌ إلي، ظننت، لكن لم يكن هناك شيء ورائي، كانا زوجين عجوزين فقط، الرجل ربما في الخامسة والسبعين والمرأة في حوالي السبعين، أو عكس ذلك، وبدت هي في صحة جيدة، لكنه بدا وكأنه سيأخذ نفسه الأخير في أي وقت الآن أو أن صيفه هذا سيكون الأخير، وفي بادئ الأمر، بعدما تغلبت على جزعي الأولي، كان صعباً لي أن أحيد بنظري عن وجه الرجل العجوز، عن جمجمته المغطاة بالكاد بطبقة رقيقة من الجلد، لكنني بعدها اعتدت على مراقبة الإثنين خلسة، مستقلياً على الرمل، ووجهي منكس، مختبئ في ذراعي، أو من الممر، جالساً مواجهاً الشاطئ، متظاهراً أنني أكنس الرمل عن نفسي، وأتذكر تلك المرأة العجوز التي تأتي دائماً إلى الشاطئ بمظلة، تختبئ تحتها بسرعة، ولم تكن ترتدي ثوب سباحة، على الرغم من رؤيتي لها في ثوب سباحة، ولكن عادة ما كانت ترتدي ثوباً صيفياً فضفاضاً يجعلها تبدو أكثر سمنة، وتحت تلك المظلة جلست المرأة العجوز تقرأ، كان معها كتاب سميكٌ جداً، بينما تمدد الهيكلُ العظمي الذي كان زوجها على الرملِ مرتدياً “مايوهاً” ضيقاً فقط، “مايوه” بخط رفيع تقريباً، وشرب في الشمس بشراهة أرجعت لي ذكريات المدمنين وهم في جمودٍ ذهنيّ، مُدمنين يُركزون على ما يفعلونه، على الشئ الوحيد القادرين على فعله، ومن ثم آلمني رأسي وغادرت الشاطئ، كان لدي شئٌ لآكله في “الباسيو مارتيمو”، طبق صغير من الأنشوجة وبيرة وبعدها دخنت سيجارة وشاهدت الشاطئ من خلال نافذة البار، ومن ثم عدت والرجل العجوز والمرأة العجوزة ما زالا هناك، هي تحت مظلتها الشمسية، وهو معرض لأشعة الشمس، وثم، فجأة، ومن دون سبب، شعرت برغبة في البكاء ودخلت إلى الماء وسبحت وعندما أصبحت بعيداً عن الشاطئ نظرتُ إلى الشمس وبدا غريباً لي أنها كانت هناك، هذا الشئ الكبير الذي لا يشبهنا، وبعد ذلك بدأت بالسباحة باتجاه الشاطئ (كدت أغرق مرتين) وعندما عدت سقطت إلى جانب منشفتي وجلست ومكثت هناك فترة طويلة، لكن دون أن يغيب نظري عن الزوجين العجوزين، وبعدها ربما غفوت على الرمل، وعندما استيقظت كان الشاطئ قد بدأ يفرغ، لكن الرجل العجوز والمرأة العجوز ما يزالان هناك، هي مع روايتها تحت المظلة وهو على ظهره في الشمس بعيون مغلقة وتعبير غريب على وجهه الشبيه بالجمجمة، كما لو كان قادراً على الشعور بكل ثانية تمضي وهو يتذوقها، على الرغم من أن أشعة الشمس كانت ضعيفة، على الرغم من أن الشمس كانت قد غطست بالفعل خلف المباني على طول الشاطئ، خلف الهلال، لكن لم يبدو أن هذا يزعجه، ثم راقبته وراقبت الشمس، وأحياناً قرصني ظهري قليلاً، كما لو كنت قد حرقت ظهري ذلك العصر، ونظرت إليهما ثم نهضت، علّقتُ منشفتي حول كتفي كرداء وذهبت لأجلس على أحد مقاعد “باسيو مارتيمو”، وتظاهرت بأنني أكنسُ رملاً غير مرئيٍ عن أرجلي، ومن هناك في الأعلى كانت لي رؤية مختلفة للزوجين، قلت لنفسي إنه ربما لم يكن على وشك الموت، قلت لنفسي إنه الوقت ربما لم يكن موجوداً بالطريقة التي ظننت، تأملت الزمن بينما أطالت مسافة الشمس ظلال المباني، ثم ذهبت إلى البيت واستحممت وعاينت ظهري الأحمر، ظهر بدا أنه لشخص آخر وليس لي، ستكون هناك سنوات قبل أن أعرفه، ثم شغّلت التلفاز وشاهدت برامج لم أفهمها على الإطلاق، إلى أن نمت في مقعدي، وفي اليوم الثاني كانت عودة إلى الشيء القديم نفسه، الشاطئ، العيادة، والشاطئ مجدداً، روتين كان يقاطع أحياناً من قبل أشخاص جدد على الشاطئ، امرأة على سبيل المثال، كانت دائماً واقفة، لم تستلقي أبداً على الرمل، ارتدت “بيكيني” و”تي شيرت” أسود، وعندما تنزل في الماء تتبلل حتى ركبتيها فقط، وكانت تقرأ كتاباً، مثل المرأة العجوز، لكن هذه المرأة قرأته وقوفاً، وفي بعض الأحيان وهي منحنية إلى الأسفل، بطريقة غريباً جداً، ثم التقطت زجاجة بيبسي كبيرة وشَرِبَت، وقوفاً، بالطبع، ثم أعادت الزجاجة إلى الأسفل على المنشفة، التي لا أعلم لم جلبتها بما أنها لا تستلقي عليها أو تذهب لتسبح أبداً، وأحياناً أخافتني هذه المرأة، بدت غريبة جداً، لكني شعرت بالأسف تجاهها معظم الأوقات ، ورأيت أشياء غريبة أخرى، كل أنواع الأشياء تحدث على الشاطئ، ربما لأنه المكان الوحيد الذي نكون فيه نصف عراة، على الرغم من أنه لم يحدث أي شئ مهم جداً أبداً، في إحدى المرات كنت أتمشى على طول الشاطئ وظننت أنني رأيت مدمناً سابقاً مثلي، يجلس على كومة رمل ويضع رضيعاً على حجره، وفي مرة أخرى رأيت بعض الفتيات الروس، ثلاثة فتيات روسيات، كن مومسات على الأغلب وكن يتحدثن في هاتف خلوي واحد ويضحكن، ثلاثتهن، لكن ما أثار فضولي فعلاً كانا الزوجين العجوزين، بشكل جزئي لأنه كان لدي شعور أنّ الرجل العجوز قد يموت في أي لحظة، وعندما فكرت في ذلك، أو عندما استوعبت أنني أفكر في ذلك، أتتني أفكار مجنونة، كفكرة أن يحدث تسونامي بعد موت الرجل العجوز وستُدمر البلدة بموجة عملاقة، أو أنّ الأرضَ ستبدأُ بالإهتزاز وسيبتلعُ زلزالٌ عظيمٌ البلدةَ كلّها بموجة غبار، وعندما فكرت بما قد وَصَفتُهُ الآنَ خبّأت رأسي في يديّ وبدأت بالنحيب، وبينما كنت أنحَب حَلُمتُ (أو تخيلتُ) أن الوقتَ كانَ ليلاً، ربما في الثالثة صباحاً، وقد تركتُ منزلي وذهبتُ إلى الشاطئ، وعلى الشاطئ وجدت الرجل العجوز ممدداً على الرمل، وفي السماء، في الأعلى قُربَ النجوم، لكن أقرب إلى الأرض من نجوم أخرى، سطعت هناك شمسٌ سوداء، شمسٌ ضخمة، صامتة وسوداء، وعدت إلى الشاطئ وتمددت على الرمل أيضاً، وكنا أنا والرجل العجوز الشخصين الوحيدين على الشاطئ، وعندما فتحت عيناي مجدداً استوعبت أن المومسات الروسيات والفتاة التي كانت واقفة دائماً والمدمن السابق مع الرضيع كانوا يراقبونني بفضول، متسائلين ربما عن من يكون هذا الرجل الغريب، الرجل بالظهر والكتفين المحروقين من الشمس، وحتى المرأة العجوز كانت تحدق بي من تحت مظلتها، تقاطع قراءتها لكتابها الطويل لبضع ثوان، متسائلة ربما  عن من يكون هذا الرجل الشاب، ذلك الرجل ذو الدموع الصامتة على وجهه، رجل في الخامسة والثلاثين لم يكن يملك شيئاً لكنه كان يستعيد عافيته وشجاعته وعرف أنّه سيعيش لفترةٍ أطول.

_____________________________

النص عبارة عن فقرة واحدة ظهرت في مجموعة لروبرتو بولانيو (1953 – 2003) بعنوان “بين قوسين” طُبعت بعد وفاته. نُشر النص للمرة الأولى باللغة الإنجليزية مترجماً عن الاسبانية عام 2011.

*****

خاص بأوكسجين