عبد الفتاح كيليطو والتّراث العربي
العدد 286 | 29-4-2024
إبراهيم العاقل


ذهبت جائزة الملك فيصل العالميّة في اللغة العربيّة والأدب في العام الماضي إلى النّاقد والرّوائيّ المغربيّ عبد الفتّاح كيليطو (المولود سنة 1945، بمدينة الرّباط)، عن عمله في “السّرد العربيّ القديم والنّظريّات الحديثة”. ولم يتقاسمها هذه المرّة مع كاتبٍ مصريٍّ، كما كان الحال في سبعٍ من المرّات الثّمان السّابقة التي تحصّل فيها كتّابٌ مغاربة على هذه الجائزة الرّفيعة (1988، 1991، 1999، 2006، 2007، 2016، 2019).

خلال ما يربو على أربعة عقود، لم يحقّق كيليطو اسمه عربيّاً فحسب ضمن مركزيّة المشرق العربيّ، بل لقد استطاع الإفلات من هذه المركزيّة وتجاوزها وإن “عن غير عمد، من دون أن ينوي ذلك أو يخطّط له”، وفي الوقت نفسه كرّس اسمه في دوائر الاستشراق وأوساط المشتغلين بالثّقافة العربيّة في الغرب، وذلك منذ أطروحته عن السّرد والأنساق الثّقافيّة في مقامات الهمذانيّ والحريريّ التي ناقشها عام 1982 في جامعة السّوربون الجديدة (ترجمها عبد الكبير الشّرقاوي وصدرت عام 1993 عن دار توبقال ـ الدّار البيضاء، في 237 صفحة). وهذا البحث الأكاديميّ هو أكبر أعمال كيليطو النّقديّة حجماً وأكثرها صرامةً منهجيّة، ومع ذلك فقد تسلّل إليها أسلوبه المميّز في الحكي وجنوحه الجريء إلى الخيال.

 

تفرّد الأسلوب وفرادة الكتابة:

ولطالما كانت الرّصانة البحثيّة والكتابة وفق المعايير الجامعيّة المعهودة ممّا لا يروق لكيليطو، الذي لم يتردّد في التّعبير عن ذلك قائلاً في كتابه “في جوٍّ من النّدم الفكريّ” (منشورات المتوسط ـ ميلانو، 2020، في 79 صفحة): “وبالجملة، لست قادراً على تأليف بحث مستفيض لموضوع ما في فصول متراصّة البناء. كان هذا يقلقني ولم أتجاوزه إلا يوم ظهر لي أنّ ما كنت أعتبره عجزاً يمكن أن أجعل منه الموضوع الرّئيس لمؤلفاتي”. بل لعلّنا يمكن أن نعتبر أنّ كتاباته السّرديّة إنّما هي في سبيل التّحرّر من التّزمّت الأكاديميّ. وأنّ الرّواية هي ملجأه حين يريد الخروج من عهدة الكلام، وها هو يقول: “يجوز في الرّواية، بصورة إجماليّة، التّلاعب بالمراجع والإحالات، بل قد يُستحبّ ذلك، أقول هذا مع أنّني تحرّيت في (أنبئوني بالرّؤيا) الدّقة التّامّة أثناء كلامي عن ألف ليلة. لكن عندما يتعلّق الأمر بدراسة، وهذا نعت كتاب الغائب، فإنّ عدم الدّقة شيء لا يُغتفر”. وقد جاء قوله هذه في معرض التّعليق على خطأ علميٍّ كان قد وقع فيه في كتاب “الغائب: دراسة في مقامة للحريري” (دار توبقال ـ الدار البيضاء، 1987، في 94 صفحة). ومن هنا فقد كانت موضوعة إعداد البحوث الجامعيّة والإشراف عليها حاضرة في روايتيه: “أنبئوني بالرؤيا” (ترجمها عبد الكبير الشّرقاوي وصدرت عام 2011 عن دار الآداب ـ بيروت، في 127 صفحة). و”والله إن هذه الحكاية لحكايتي” (منشورات المتوسط ـ ميلانو، 2021، في 143 صفحة). وقد قسّم الرّواية الأولى إلى أربعة فصول هي: (إيدا في النّافذة ـ الجنون الثّاني لشهريار ـ معادلة الصّينيّ ـ رغبة تافهة في البقاء)، وقسّم الثّانية إلى خمسة (نورا على السّطح ـ أبو حيّان التّوحيديّ ـ قَدَر المفاتيح ـ هي أنتِ، وليست أنتٍ ـ خطأ القاضي ابن خَلِّكان). وقد سار على هذا المنهج في التّقسيم والتّجميع القائم على القرابة الثيماتية للنّصوص في كتبه جميعها؛ فهي كما يشهد بنفسه: “تتكوّن من فصولٍ قائمة بذاتها، إنّها استطرادات، مجالس، أو إذا فضّلنا مقامات، بكل معاني الكلمة”. وهو يسير بذلك ـ كما صرّح في أكثر من موضع ـ على خطى الجاحظ، ولكن ليس ليدفع الملل عن القارئ فقط، وإنّما ليدفعه عن قلمه في المقام الأوّل.

إنّ تفكيك مرجعيّات الشّهادة السّابقة يوقفنا بإيجاز على قراءات كيليطو وعلى الخطوط العريضة للبنى المعرفيّة لثقافته الشّخصيّة، وبالتّالي على خصوصيّة الكتابة لديه. أوليست “خصوصيّة الكتابة مرتبطة بنوعيّة القراءة. ماذا قرأت؟ وبادئ ذي بدء، ما هو أوّل كتاب قرأته؟”. ثمّ إنّ السّؤال “بأيّ لغة تكتب؟ لن يكون له معنى إلا إذا استُكمل بهذا السّؤال الآخر، المُهمل باستخفاف: بأيّ لغة تقرأ؟” كما طرحه في كتاب “من شرفة ابن رشد” (ترجمه عبد الكبير الشّرقاوي وصدر عام 2009 عن دار توبقال ـ الدّار البيضاء، في 77 صفحة)، والذي انطوى على الفصول التّالية: (كيف نقرأ كليلة ودمنة؟ ـ الكلام إلى السّلطان ـ عزيف الجنّ ـ تلك الجنّة الخضراء ـ بيرك والحريري ـ بارت والرّواية ـ لغة القارئ ـ من شرفة ابن رشد).

 

فممّا طالعه كيليطو إذن كتب ابن المقفّع والجاحظ والمعرّيّ ومقامات الهمذانيّ والحريريّ فضلاً عن كتاب ألف ليلة وليلة التي لا يغيب ذكره عن أيٍّ من مؤلّفاته. أي أنّ ميدان اهتمامه الأساسيّ كان السّرد العربيّ القديم الذي وجده مظلوماً فتعهّد رفع ظلامته، كما نستنتج من قوله في كتاب “الحكاية والتّأويل: دراسات في السّرد العربيّ” (دار توبقال ـ الدار البيضاء، 1988، في 84 صفحة): “عندما نقارِنُ بين ما ألّف حول السّرد، وما أُلّف حول الشّعر، فإنّه لا يسعنا إلا أن نسجّلَ (الضّيم) الذي لحق بالسّرد”. ولذلك فقد حاول في كتاباته “إعادة التوازن لعلاقة مختلّة” وهذه هي “وظيفة السّرد” في الأساس، حسب رأيه. واجتهد كذلك في نفض الغبار عن كتاباتٍ كثيرة أهملتها الثّقافة العالمة ولم تلتف إليها إلا من باب التّرفّع والتّعالي، كما ذكر في كتابه “لسان آدم” (ترجمه عبد الكبير الشّرقاوي وصدر عام 1995 عن دار توبقال ـ الدّار البيضاء، في 118 صفحة): “في أثناء قراءتي لمؤلّفات عربيّة كلاسيكيّة، جذبني وحيّرني في آن معاً مخزون غزير من النّصوص الهامشيّة، التي لا يأخذها أحد مأخذ الجد، مخزن لبضائع عتيقة، ونفايات مزعجة لم يمْكِن التّخلص منها. […] حلّلت هذه النّصوص مجتهداً أن أحافظ على طراوتها، وسذاجتها (الماكرة أحياناً) وعلى الحنين الغامض الذي يعتمل فيها”.

 

ولا يعني ما سبق أنّ علاقة كيليطو بالشّعر كانت مقطوعة؛ فقد لجأ إليه مستشهداً ـ ولا سيّما في الكتابات الأولى ـ وبحث في قوافيه عن تطبيقاتٍ لأفكاره النّظريّة، كما فعل في “الكتابة والتّناسخ: مفهوم المؤلّف في الثّقافة العربيّة” (ترجمه عبد السّلام بنعبد العالي وصدر عام 1985 عن دار التّنوير ـ بيروت والمركز الثّقافي العربيّ ـ الدّار البيضاء، في 128 صفحة)، وجاءت فصوله كالتّالي: (تناسخ المقطوعات الشّعرية ـ التّبنّي ـ القصيدة المتعدّدة الأزواج ـ طرق الحديث ـ الشّعر والصّيرفة ـ النّوادر ـ الجاحظ ومسألة التّزييف ـ رسالة من وراء القبر ـ الصّوت والطّرس الشّفاف). وربّما كان يتمنّى أن يوليه عنايةً أكبر لولا وجود أولويّات أكثر إلحاحاً. فهو يقول في كتابه “بحبْر خفيّ” (دار توبقال ـ الدّار البيضاء، 2018، في 110 صفحة): “لم أستظهر مع الأسف الشّديد إلا النّزر القليل من الشّعر، ما تعلّمته في المدرسة”.

 

الانفتاح على الأنا والآخر:

دعا كيليطو إلى دراسة السّرد العربيّ بمختلف فنونه ومظاهره؛ إذ لا يجوز في رأيه “لمن يدرس (ألف ليلة وليلة)، مثلاً، أن يتجاهل تاريخ الطّبريّ ورحلة ابن بطوطة وكتب التّراجم”. أمّا الأدوات التي ارتأى دراسة هذا السّرد ومقاربته من خلالها فهي ما أنتجته الثّقافة الغربيّة من مناهج نقديّة حديثة. وإلى هذا يشير عبد الكبير الخطيبي في معرض تقديمه لكتاب “الأدب والغرابة: دراسات بنيويّة في الأدب العربيّ” (بيروت ـ دار الطليعة، 1982، في 117 صفحة)، حيث يقول: “يمكن اعتبار هذا الكتاب ذاته، بمثابة مدخل لنقد أدبيّ جديد يأخذ على عاتقه التّراث العربيّ وكذلك النّظريات الحديثة المتصلة بموضوعة الكتابة”. فكيليطو يحلّق بجناحين: سرديّ عربيّ قديم ونقديّ غربيّ حديث. فالالتصاق بالمكان والاكتفاء بما أنبتته تربته لا يساعد على النّموّ المتوازن والبناء السّليم، ولا بدّ لذلك من الانفتاح على الآخر والاغتراف ممّا أنتجه. و”إذا أراد المرء أن يتجدّد فما عليه إلا أن يغترب، أن يبدّل مُقامه، أن يغرب، كما تفعل الشّمس”. وهو في مقولته هذه لا يأتي ببدعة جديدة وإنّما يقتفي فيها أثر السّندباد البحريّ. إنّ هدف هذا التّحليق هو مدّ الجذور بنسغٍ جديد ونفض التّراب عن الأجنحة المعطّلة؛ فكلّ الرّوافد تصبّ في نهر اللغة العربيّة وأدبها. ولقد قالها صراحةً بالفرنسيّة: “أتكلّم جميع اللغات، لكن بالعربيّة” (ترجمه عبد السّلام بنعبد العالي وصدر عام 2013 عن دار توبقال ـ الدّار البيضاء، في 118 صفحة). أضف إلى ذلك أنّ المسافة الفاصلة بين هذا المغترب والآخر لن تتلاشى مهما تقلّصت وستبقى الجدران قائمة بينهما مهما شفّت. ولذلك خاطب هذا الآخر بالعربيّة جازماً: “لن تتكلّم لغتي” (دار الطليعة ـ بيروت، 2002، في 117 صفحة).

 

أمّا النّواة المتكرّرة والمرجعيّة الثّابتة في منجز كيليطو الإبداعيّ نقديّاً وسرديّاً فهي كتاب ألف ليلة وليلة؛ إذ لا ينفكّ يعرّج عليه ويستشهد بحكاياته. مكرّرا تذكيره بالملاحظة المدهشة “كم [أصبحت] الليالي عزيزة على العرب الذين لم يعبأوا بها طوال ألف عام”. وفي ضوء هذه الملاحظة يخاطب هؤلاء العرب في رواية “أنبئوني بالرّؤيا” بنبرة لا تخلو من تهكّم: “هذا الكتاب الذي تعتزّون به إلى هذا الحدّ لم يصرْ عربيّاً إلا لأنّ الأوروبّيين قرّروا ذلك. لقد صنعوا كتاب العرب، قالوا لكم: (هذا كتابكم). فتبّنيتموه. وها قد وقعتم في شباك حكاياته، لن تستطيعوا أبداً الإفلات منه. سيجثم عليكم حتى فَناء القرون”. وإن كان هو نفسه لم يفلت من هذا الفخّ وإن نجا إلى حدٍّ ما من الاستشراق المعكوس في مقاربته له. وها هو يقول في كتاب “الحكاية والتّأويل: دراسات في السّرد العربيّ” (دار توبقال ـ الدّار البيضاء، 1988، في 84 صفحة): “إذا طلبتَ من قارئ (غربيّ) أن يذكر لكَ كتاباً عربيّاً قرأه أو سمِعَ به، فإنّه سيفكّر لحظة ثمّ يقول لك: (ألف ليلة وليلة). لن يذكر لك إلا هذا الكتاب، لأنّه لا يعرف كتاباً عربيّاً غيره […]. ولا شكّ أنّ الدّهشة ستتملّكك وأنت تسمعه يشيد بكتاب لا يدرّس في الجامعات ولا توليه تواريخ الأدب كبير اهتمام”. ويكرّر مقولته بنبرةٍ أكثر تأكيداً ويقيناً في كتاب “الأدب والارتياب” (دار توبقال ـ الدّار البيضاء، 2007، في 80 صفحة): “في تواريخ الأدب العربيّ لا تدرج الليالي في أيّ باب من الأبواب المعتمدة عادة؛ لا ترتبط، مثلاً، بترتيب زمنيّ […]. على العموم لا تذكر إلا في نهاية المطاف، وتبرئة للذّمة، بجوار ذات الهمّة وبجوار سيف بن ذي يزن، أي مع أعمال وضعها أيضاّ غير محدّد”، وإن كانت هذه المقولة موضع نقاش ومحلّ جدل. والحقيقة فقد أبدع كيليطو في قراءة هذا الكتاب وفي تأويل بعض حكاياته والكشف عن حساسيّتها الفنّيّة وخصوصيّتها الجماليّة، ولا سيّما في كتاب “العين والإبرة: دراسة في ألف ليلة وليلة” (ترجمه مصطفى النّحّال وصدر عام 1996 عن منشورات الفنك ـ الدّار البيضاء، في 159 صفحة)، وفي كتاب “من نبحث عنه بعيداً، يقطن قربنا” (ترجمه إسماعيل أزيات وصدر عام 2019 عن دار توبقال ـ الدّار البيضاء، في 91 صفحة)، الذي أهداه إلى أبي بكر الشّرايبي.

 

عبور الأنواع والخروج عن التّصنيف:

وبالعودة إلى خصوصيّة الكتابة لدى كيليطو فلعلّ أفضل عرضٍ لها ما ساقه المترجم عبد الكبير الشّرقاوي في معرض تقديمة لترجمة كتاب “حصان نيتشه” الذي جمع فيه سبعة من أعمال كيليطو السّرديّة (صدر عام 2003 عن دار توبقال ـ الدّار البيضاء، في 172 صفحة)، يقول الشّرقاوي: “لكنّ الكتابة السّردية عنده لم تكن أبداً محدودة بحدود اللغة، أو بحدود السّرد نفسه: كثيرة هي النّصوص التي صيغت فكرتها الأولى بالفرنسيّة، ثم انبثقت منها نصوص عربيّة، وبالعكس. وقد تنبجس قصة من منعطف دراسة أو مقالة؛ كما قد يتطوّر مشهد سرديّ إلى مقالة أو دراسة؛ ويبدو أحياناً من الصعب، عند المهووسين بالتّصنيف، الفصل بين المقالة والسّرد، وبين البحث الأدبيّ والتّخييل. لكن وراء ذلك كلّه توجد كتابة متفرّدة تتخطّى حواجز الأنواع، وتتأبّى على التّصنيف”. ويمكن أن نذكر من أمثلة هذا الانتقال السّلس والالتقاط البارع للأفكار تعليقه في كتاب “لن تتكلّم لغتي” على ترجمة متّى بن يونس لكتاب فنّ الشّعر لأرسطو، يقول: “ومن يدري! لعلّه كان على علمٍ تامٍ بدلالتهما [يشير إلى الطراغوديا والقوموديا]، ولعلّه تعمّد ترجمتهما بالمديح والهجاء … لحاجه في نفسه”. ثمّ يكتب في الهامش: “قد يصلح هذا الافتراض موضوعاً لرواية!”. فهل سيكتب كيليطو هذه الرّواية يوماً ما، أم أنّ الوقت قد حان حقّاً لـ “التّخلي عن الأدب”، وهذا عنوان كتابه الأخير (صدر عن منشورات المتوسط ـ ميلانو، 2022، في 102 صفحة).

*****

خاص بأوكسجين


أكاديمي وباحث سوري يعمل في المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقية بباريس.