عند الليل تُصدر الكلاب جميعاً النباح نفسه؟
العدد 160 | 18 تشرين الأول 2014
قيس الزبيدي


ماذا كان “العربي” يفعل قديما عندما يتيه ليلاً ويضل طريقه؟ وما هي وسيلته ليهتدي، مهما كان الثمن، إلى قومه ويسترجع ذاته؟ يرجع عبد الفتاح كيليطو في خاتمة كتابه الساحر “الكتابة والتناسخ” إلى كتاب “الحيوان” للجاحظ ويستمد منه كعادته حكاية طريفة، يحاول أن يؤولها بطريقة مبتكرة، ولنرويها نحن اليوم إلى القارئ بطريقة مختلفة، علّه يستخرج منها مغزاها الراهن، كما يشتهي ويريد؟ 

رجل ضلَّ ليلاً في القفر ويحاول أن يهتدي إلى قومه. لعلّه عمل نهاراً على وضع أحجار ومعالم عند مروره ولعلّه ترك آثار قدميه على الأرض التي وطأها. لكن عيناه لا ترى في سواد الليل لا الأحجار ولا آثار قدميه، لأنهما ليسا عيني هر. سيلجأ إلى طريقة لا تخطر ببال أحد: يأخذ بالعواء والنباح، علّ كلاباً بالجوار تستجيب لنباحه. فالنباح دلالة على وجود ديار وناس يقطنوها… ولكي يهتدي إلى طريقه، لا مفر له من النباح. أما الكلاب التي ستستجيب لنباحه، فإنها ستظن أن من يخاطبها بلغتها هو كلب منها. لهذا عليه أن يحوّل نفسه إلى كلب، ليهتدي إلى قومه ويسترجع إنسانيته.

كائن بشري يتكالب في سواد الليل، يتخلى عن لسانه ويتخذ لغة الكلاب ليهتدي إلى بني قومه ويتظاهر، مؤقتا، بأنه كلب. وهو بهذه اللعبة المخادعة يكون بحاجة إلى النباح. 

فرضية أولى: ليس هناك ما يضمن وجود كلاب على مقربة من قومه، فعند الليل تصدر الكلاب جميعاً النباح نفسه،  وقد تكون الكلاب التي قد تستجيب إلى ندائه، أناساً ضالين أيضا يستنبحون مثله، علّهم يجدون كلباً يرشدهم إلى قومهم. ستكون الخديعة مزدوجة، ففي الجهتين هناك اعتقاد بأن الكلاب حقيقية، بينما في الجهتين ليس هناك سوى كلاب مُزيفة. وعندما تحين المواجهة تصيب الجميع خيبة كبرى. 

فرضية ثانية: لنترك صاحبنا المستنبح يتجه صوب أهله حيث تنتظره مفاجأة عظمى لأنه سيجد أن قومه يستمرون بالنباح عوضاً عن تكلم لغتهم لأنهم عبّروا بصوت الكلاب عن رغبتهم في استرجاع “الابن الضال” واخذوا في النباح ليجعلوه يستدل على مكانهم، وحينما يفعل ويقترب منهم يأخذ بني قومه يرحبون به بلغة ضائعة مزيفة، لا يصدر منها سوى صوت نباح الكلاب. 

فرضية ثالثة: يرى صاحبنا نيران قوم غرباء ولنتصور إن هؤلاء الغرباء ينطقون لغة غير لغته وان المستنبح الذي تقوده خطاه إليهم وهو يتوقف عن تقليد الكلاب ليستعيد لغته، سيكتشف أنهم لا  يتكلمونها  وأنهم حتى لا ينظرون إليه على أنه كلب، بل على أنه قرد لا يقلد نباح الكلاب وإنما نباح البشر.

فرضية أخيرة: إذا كان صاحبنا الليلي الضال سينبح في مكان أخلته الكلاب، فانه سيظل ينبح طوال الليل بلا مجيب، وحينما يبلغ، مع إشراقة الفجر، نبع ماء صغير، يسرع منهكاً  وينحني للشرب. حينئذ تتراءى له على سطح الماء صور “له” غير واضحة. فأية صورة سيرى؟ صورة كلب؟ صورة قرد؟ أم صورته المعهودة؟ قد يرى كل هذه الصور  المتمازجة، لكنه عندما يمد يده ليمسك بأية واحدة منها، تتسارع مياه النبع الصغير أكثر فأكثر وتبدأ الصور بالذوبان وتتلاشى في مجرى الماء المتسارع. 

اسم الكتاب

اسم الكاتب


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."