السينما والفلسفة
العدد 284 | 18-3-2024
قيس الزبيدي


لابد من الإشارة أولاً إلى أنه لا يمكن الفصل بين التراث النظري في السينما والجهود السيميائية في الفيلم من جهة، والأبحاث الفلسفية من جهة أخرى، خاصة بعد أن غدت السينما تمتلك إغراءً خاصاً من خلال قدرتها على جذب المفكرين والفلاسفة وجعلها موضوعاً للتفكير، ومن ثم اقتراحها على الفلسفة إمكانيات كبيرة للاشتغال، لا بل توفير شروط بعض “الاندفاعات” الفكرية جراء احتكامها – حسب بازان – على قوة “أنطولوجية” تحتاج إلى الفلسفة لإبراز مكوناتها ودلالاتها وأبعادها.

لقد افتتح جملة من كبار نقّاد السينما، الذين كانوا من ذوي اختصاصات مختلفة آفاقاً جديدة أمام الجدالات والأسئلة الفنية/الجمالية من خلال الفيلم، فقد أسسوا منذ أوائل القرن العشرين ما سمّي تاريخياً “نظرية السينما”، أمثال رودولف أرنهايم وبيلا بالاج  وجان إبستاين وهوغو منستيربيرغ، متناولين، تاريخياً، المفاهيم والخواص والمواضيع الأساسية المتعلقة بالسينما، من دون تجاهل الجهود النظرية التأسيسية لمفكرّين ونقّاد سينمائيين من أمثال جان ميتري وإيزنشتين واندريه بازان وكريستيان ميتز، وتجلياتهم فكرية التي مهدت الطريق أمام فلاسفةٍ لولوج عالم السينما، باعتبارها مجالاً إبداعياً يُحفِّزُ على التفكير بقضايا فلسفية متعددة.

وفي لمحة تاريخية بيًّن جيمس موناكو اهتمام مُنظِّري السينما الأوائل-بنِسَب متفاوتة- بتقديم هوية فنية جديرة بهذا الفن الفتي. فعندما بدأ الفيلم الروائي يكتسب أهمية خاصة في عام 1915، نشر وقتها الشاعر المرموق فاسيل ليندساي كتابه حول “فن الصور المتحركة”، وبعد مرور سنة واحدة ظهر كتاب رئيس آخر، هو “التمثيلية المصورة: دراسة سيكولوجية” (1916) لأستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد هوغو منستيربيرغ، واعتبر الكتاب قيّماً للغاية، ونال شهرة أكاديمية، مع أن مؤلفه لم يكن من محبي السينما.

ويمكن اعتبار المؤلفَيْن العلَمَين الواضحَيْن، الأكثر براعة وإيجازاً في هذا السياق، هما مؤلف رودولف آرنهايم “الفيلم كفن” ومؤلف سيغفريد كراكاور “نظرية الفيلم: خلاص الواقع الفيزيائي”. وأصبح الكتابان من أدبيات السينما الكلاسيكية. بالمقابل كانت السينما السوفيتية خلال العشرينيات واحدة من بين السينمات الأكثر إثارة في العالم، ليس من الناحية العملية فقط، بل على الصعيد النظري أيضاً. وخلال هذه الفترة حقق بودفكين وإيزنشتين قالباً غير متبلّور للنظرية الشكلية، وكانا خلافاً لآرنهايم وكراكاور من السينمائيين الممارسين لصناعة الفيلم وقد قدّما عدداً من الأفلام المبتكرة، لكن عملهما النظري لم يكن موضوعاً في مجلدات، بل كان موزعاً في مقالات فردية على امتداد فترة دامت سنوات عديدة.

بدأ ممثلو ما يمكن تسميته “نظام فرعي للفلسفة والسينما” أبحاثهم في عقد الثمانينيات ويمكن تسميتهم أيضا بفلاسفة الفيلم، وقد وجدوا في الوسيط السينمائي أو الأفلام قدرة على توليد أسئلة فلسفية، وبالتالي أصبح الوسيط نفسه موضوعاً للتفكير الفلسفي. ولم يعد المشروع الفلسفي منفصلاً بأي حال عن الإبداع السينمائي حيث أن صورة الوسيط الذي يمثل منطلقا للتصور بات مجالاً للتفكير الفلسفي، كذلك بقيت الأطروحة القائلة بأن الأفلام يمكن أن تعبر عن أفكار فلسفية حقيقية موضع نقاش مثير للجدل، لأن مواضيع الأفلام يمكن أن تعتبر مصدرا للإلهام الفلسفي الذي يفتح وجهات نظر بديلة على الإشكاليات الفلسفية التقليدية، فعناصر التعبير السينمائية مثل  اختصار زمن الصور، تطويل زمن الصور ، وتغيير وجهة النظر أو اعتماد طرق مونتاج عمودية  لا خطية، يمكن أن تلهم  اختبارات  فلسفية  متصلة بمفهوم الزمن أو المفاهيم المعرفية!

ولا شك أن حالة جيل دولوز، حالة خاصة ومميزة، متصلة بالعلاقة ما بين الفيلسوف والسينمائي وهو أمر تشكل بوضوح عبر مؤلفيه “الصورة –الحركة” و”الصورة – الزمن” وقد أثار الكتابان جدلاً واسعاً في الأوساط الفكرية، ومضى وقت لا بأس به قبل أن يتكشف ثراء الأفكار التي تضمنها الكتابان. وكان همّ دولوز الأساس كفيلسوف هو أن يفكر مع السينما ليجد فلسفيا أن الزمن في السينما يصبح محل إدراك بصري.

وخصص هنري برغسون فصلا في كتابه الشهير “التطور الخلّاق” لمناقشة الآلية التي تعمل بها السينما، وجاء هذا في ضمن سياق اهتمام برغسون بموضوع الحركة، ويمكن القول إنه مع برغسون بدأ ما يمكن أن نطلق عليه “التفكير في السينما وصورة الزمن”، وبدوره فإن دولوز لم يكن مع أو ضد السينما، وإنما كان همه الأساس كفيلسوف أن يفكر مع السينما، ليجد فلسفياً أن الزمن في السينما يصبح محل إدراك بصري.

نحن نحفظ-حسب بول ريكور-عن ظهر قلب صيحة أوغسطين التي أطلقها وهو على أعتاب تأمله: “ما الزمن إذن؟”، “إنني لأعرف معرفة جيدة ما هو، بشرط ألا يسألني أحد عنه، لكن لو سأل أحد ما هو، وحاولت أن أفسره، لارتبكت”. ويضيف أوغسطين: “ربما صحَ القول إن هناك ثلاثة أزمنة: حاضر الأشياء الماضية، وحاضر الأشياء الحاضرة، وحاضر الأشياء المستقبلية، وتوجد هذه الأزمنة المختلفة في العقل، ولا تُرى في أي مكانٍ آخر”.

يكتب دولوز: “كنا قبل السينما نستطيع أن نشعر بـــالزمن أو أن نحسبه، ولكننا أبداً لا نستطيع أن نراه. فالماضي لا يأتي بعد الحاضر الذي لم يعد حاضراً، إنما يتعايش مع الحاضر (…) الحاضر هو الصورة الحالية وماضيها المعاصر صورة افتراضية تعكسها مرآة”.

في السينما الكلاسيكية يكون الزمان تابعا للحركة وفي السينما الحديثة تكون الحركة تابعة للزمن. لأن الفيلم في كليته، يُبنى على حركة الصورة، وبهذا يستطيع أن يبتكر مجموعة صور مختلفة ويولّفها عن طريق المونتاج. وتاريخياً توجد صورة الإحساس أي “اللقطة العامة” ويمثّلها فيرتوف، وصورة الفعل أي “اللقطة المتوسطة” ويمثّلها غرفث، وصورة الإدراك أي “اللقطة القريبة” ويمثّلها دراير.

ويحضر في هذا السياق فيلم انغمار برغمان “الختم السابع”، الذي تسنى لمخرجه أن يجد فيه حلولاً بصرية لموضوعات فلسفية مثل الموت والشك والإيمان. وثمة أفلام عديدة أخرى اقتربت من موضوعات/مسائل فلسفية، مثلما هو الحال مع ايزنشتين الذي انصرفت جهوده في فيلمه “أكتوبر” إلى اكتشاف الكيفية التي يتمكن بها المونتاج من تحويل صور المواضيع الحسية إلى لغة تستخلص المفاهيم المجردة.

ويصنف دولوز كبار السينمائيين في خانة الفلاسفة، وبكلماته: “إن كبار المؤلفين السينمائيين مثل الرسامين الكبار أو الموسيقيين الكبار: إنهم أفضل من يمكنهم الحديث عما يفعلون. ولكنهم حين يتحدّثون، يصيرون شيئا آخر. يصيرون فلاسفة أو منظّرين”.

*****

خاص بأوكسجين


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."