يوسف العاني.. المفتاح والخرابة
العدد 203 | 29 تشرين الثاني 2016
قيس الزبيدي


فارقنا الفنان العراقي يوسف العاني في العاشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول، وفيما يلي مقاربة لعوالم هذا الفنان الكبير:

 

أبدأ بسؤال مفاده: من هو هذا المدعو يوسف العاني؟

يُعرِّف يوسف هويته بنفسه: أنا المدعو يوسف/ ولدت في الصيف/ بلا تاريخ معروف/ على سطح عال مكشوف/ في الفلوجة/ من أقرب نخلة تمر “بربن”/ يقولون إني مَكثت شهرين في بطن أمي/ أكثر من الحمل المألوف/ جربت عناد الدنيا كي لا أُولد/ كأطفال الناس/ وأعلنت قبولي فرداً/ في هذه الدنيا مضطراً لا مختاراً؟

سيرة الفنان يوسف العاني سيرة طويلة وثرية في الإذاعة والمسرح والسينما والتمثيل وفي التأليف المسرحي والنقد السينمائي، قلما نجد لها مثيلا في العراق. وهو إذ حصل على جوائز وتكريمات عراقية وعربية لا تحصى، فانه استحق أيضا بجدارة لقب “فنان الشعب” وهو تكريم ارتبط باسمه، نتيجة لإبداعه ونضاله الاجتماعي المُلتزم بقضية الناس والمجتمع

بداية إستهواه أسلوب يوسف وهبي وتعلق، بعدئذ تأثر بنجيب الريحاني وحينما أخذ يتنقل بين مسارح عديدة في العالم، تعلم كثيراً واكتشف أكثر، وأسس تدريجياً مسرحه الخاص، كما أسس مع الفنان الراحل إبراهيم جلال  وعدد من الفنانين  “فرقة الفن المسرحي الحديث” في العام 1952.

قال يوسف في حديث مع صحيفة ” لسان الحال” اللبنانية بتأريخ 29 تموز 1964 اننا حين بدأنا نفتح صفحة جديدة من تاريخ المسرح العراقي بدأنا بالناس، الناس البسطاء ، حياتهم، واقعهم ، أمانيهم. كنا نغوص في أعماق حياتهم فنقدم بمستوى فني رصين هذا النتاج، مشاركين معهم في محاولات أخرى .. منتقين مادتها من المسرح العالمي ..فكان المشاهدون يأتون إلينا ليشاهدوا -المسرحية الشعبية- فيجدون معها مسرحية أخرى ، كانت رغم عالمهاالغريب، قريبه إليهم وإلى مشاعرهم، ومشاكلهم ذاتها.. وهكذا وجدنا الناس يأتون إلى المسرح. وأصبح لمسرحنا جمهور ينتظر حفلات الافتتاح ليتزاحم في باب القاعة ويحجز التذاكر للأيام المقبلة.

أخرج العاني مسرحيات عديدة رسخت في الوجدان  مثل النخلة والجيران والشريعة والخان والجسر والخرابة ونفوس والخان والمفتاح، والبيك والسايق. وبالإضافة إلى مسرحياته لا نجد أي فنان آخر كتب المقالات ونشر ذلك القدر من الكتب التي ضمنها ذكرياته عن الفنانين العراقيين واتي تعتبر مرجعاً هاماً لكل دارسي تاريخ المسرح العراقي.

إذا كان العاني في بداياته وحتى منتصف الخمسينيات ومن بعد يقف مع الجماهير لينصت إلى ما يحدث لها، فإنه قد وقف بعد ذلك أمامها، يمثل في سيناريو لم تنتهِ كتابته بعد، يجسد لها شخصيات أصيلة وأحداث مبتكرة ويرسم صورة اجتماعية للمحلة الشعبية ويجسد آمال أهلها وأحلامهم ويوحي لمن يشاهدوه بما يمكن أن يفعلوه في حياتهم، ليعيشوا بحرية وكرامة وأمان. في الواقع لم يلق يوسف العاني طوال حياته الفنية الدعم الفعلي من قبل السلطات، الا بعد قيام ثورة 14 تموز 1958 حين وجدت فرقة المسرح الحديث الحرية في العمل ، فيما بعد تولى العاني مهمة تأسيس مصلحة السينما والمسرح في العام 1960  وكان اول مدير عام. لها

نتلمس في مسرح العاني، حسب الناقد ياسين النصير، ذلك التناقض الاجتماعي الذي يطرحه بصيغ شعبية مختلفة ومبتكرة، تلائم وعي الناس العام ويتناول في العموم مواجهات حادة بين لونين متصادمين، أسود وأبيض: الخادم بمواجهة البيك والكادح بمواجهة البيروقراطي والعامل المُستغَل بمواجهة المُستغِل والمُناضل بمواجهة السجن. وكانت مهمة هذين اللونين في فترات سياسية مختلفة في العراق، طريقة تَكشف التناقضات الكبيرة التي يعيشها الناس والمجتمع، ولعلها كانت الوسيلة الوحيدة، وقتئذ، التي تمثل الوجه الشعبي للثقافة الوطنية

في “الخان” الشعبي وجد يوسف العاني أولاً المفتاح وأستعمله في فتح باب “الخرابة” القديم وراح يبحث في “رأس الشليلة” عن فلوس الدواء، في رحلة طويلة من الظلام والضوء، علَّه يحصل عليه لا لينقذ نفسه من مرض عضال، كما هو حال أبطال الأساطير، بل ليستخدمه، مُتعباً، في علاج ناس حي خرابة “ماكو شغل”:

“العبرة مو بالتعب، العبرة بالهدف اللي نتعب من أجله”. ولم يقف نضاله عند هذا الحد، بل إنه استمر في خطوات أوسع، يسهم في اية محاولة تغيير جذرية في الحياة السياسية والثقافية الاجتماعية، كما كان يتابع بحثه الدائم عن تلك الأشكال الجديدة والمضامين التي تفرضها الحياة.

وهكذا عرفته أجيال عديدة وأحبته وميَّزت جسارة فنه الذي فَتح أمامها بابا ضيقاً، تدخل منه وتتعلم كيف تكتب وكيف تمثل وكيف تحب المسرح وكيف تشاهد السينما.

استطاع يوسف في كل ما كتب وأكثر ما مثل وأغلب ما عمل أنْ يستمر كرمز من رموز الثقافة وعلماً بين مبدعي جيله كالسياب والبياتي والملائكة وجواد سليم وفائق حسن وإبراهيم جلال وغائب طعمه فرمان. وقد صدق الروائي عبد الرحمن منيف حين أشار إلى دوره في أنْ يكون صلة وصل فيما انقطع ثقافياً وفنياً ووجدانياً بين المثقفين والفنانين العرب.

*****

خاص بأوكسجين


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."