هناك ركام من الفداحة، وقتل يومي يتخطى المعقول بحيث تبدو عدادات القتلى والاحصائيات اليومية ليست إلا لعبة رقمية خاضعة للزيادة أو النقصان، لا بل يمكن الحديث عن أرقام قياسية، وأرقام أخرى تتخطى تلك القياسية. وليحضر السؤال الملح في هذا السياق: أين الأدب من هذا؟ أين هي الرواية؟ بوصفها رواية موازية للإخباري كما هي السينما، طالما أن ما نتابعه ليس إلا أرقاماً لبشر لكل منهم قصته وحياته وأحلامه وخيباته، والتي تختزل جميعاً برقم ضمن احصائيات من قُتل في هذا اليوم أو ذاك، ويمكن لسرد حكاية أي واحد من تلك الأرقام أن يشكل فناً ما، أي عالماً قصصياً مثيراً للاهتمام، وبالتالي توثيق المأساة إبداعياً.
في العراق لم تعد الرواية التي تقدم رواية موزاية كافية، بمعنى إعادة من هو برقم في نشرة الأخبار إلى إنسانيته بوصفه بشراً من لحم ودم ورواية قصته أو قصصهم، ما عاد هذا كافياً! وهنا تحضر أهمية رواية أحمد سعداوي “فرانكشتاين في بغداد”، إذ إنها تستعين بالمجاز، المجاز الجمعي الكبير الذي يختزل الإنساني والتاريخي، وبالتأكيد الإبداعي المتأتي منه، فواقع بهكذا رداءة ووحشية وجنون لا يمكن نقله إلا بمجاز، أي “فرانكشتاين” نفسه أو “الشسمه”، المكون من أشلاء الجثث التي يجمعها هادي العتاك الذي ليس إلا تاجر خردوات بما يجعل الخردوات مقابلاً للأعضاء البشرية أيضاً، وتنامي هذا المخلوق وتورطه أكثر في الواقع العراقي، وقد كان كل ما يطمح إليه هو تصفية مجموعة من الأسماء التي تسببت بمقتل أصحاب الأشلاء التي يتكون منها، إلا إنه سرعان ما يدخل بنفق لا ينتهي من الإنتقام طالما أن آلة القتل متواصلة ونشطة في الحياة اليومية العراقية، ما بين مليشيات شيعية وسنية، مضافاً إليهما المحتل الأميركي والحكومة (الأب الشرعي للميلشيات)، وصولاً إلى مضي من يحيطون بـ “الشسمه” إلى تأسيس المليشيات ونشوب الصراعات الدامية فيما بينهم بما لا بيقي من مجنون كبير أو صغير، وصولاً إلا حالة فرانكشتاين نفسه الذي لا ترديه الرصاصات لكن أعضاءه تتهاوى، ومن حوله يرممونها من أعضاء الجثث المتناثرة في كل مكان، “أعضاء مجرمين” كون من يحيطون به سيقومون بجمعها وترميم جسده من المتقاتلين، وصولاً إلى إقدامه أي “فرانكشتاين” نفسه على قتل إنسان بريء ليحصل على عينين بريئتين بعد عطب عينيه، وبالتالي فإن عملية تبديل أعضائه كما قطع الغيار ستكون آلية متواصلة للتورط بما ليس له من نهاية في يوميات القتل العراقي، كما “فرانكشتاين” ماري شيلي الذي يتنامى لديه القتل رويداً رويداً، وهو في البداية يبرر قتله لأخ خالقه فيكتور بسبب صراخ هذا الأخير.
تأمل ما تقدم يضعنا مباشرة حيال ما تأسست عليه فكرة الرواية، أو الشخصية المجازية التي تتحلق حولها الشخصيات الرئيسة في الرواية، إضافة لمنح بعض الشخصيات شخصيات ثانوية تتوكأ عليها لتضيء أكثر على عوالمها الداخلية والخارجية، كما هو الحال على سبيل المثال مع الصحافي محمود السوادي وعلاقته مع مدير المجلة السعيدي والذي من خلاله تفتح الأبواب الموصدة لمعاينة الواقع السياسي العراقي، وهذا يمتد إلى أم دنيال نفسها التي تنتظر عودة ابنها دانيال الذي لقى حتفه أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ومتى تقع على “الشسمه” حتى تعتبر أن دانيال حقاً قد عاد.
تأتي البؤرة الدرامية “الحبكة” التي تنطلق منها الرواية من الانفجار أولاً، ولنا أن نصفه بـ” التهيئة” كما في السيناريو الهوليوودي، بحيث تنطلق الشخصيات منها، أو تأتي إليها، في تقطيع مونتاجي يعتمد التقديم والتأخير، فأم دانيال تكون عائدة من الكنيسة لدى وقوع الإنفجار، ومن ثم لكل شخصية ما كانت تفعله قبل الانفجار وما بعده كما في أفلام كثيرة، هادي العتاك، محمود السوادي، حيث تتبدى حركة الزمن أفقية ومن ثم ينعطف من دون مقدمات ويعود إلى الانفجار، أين كانت الشخصية في أثنائه، ماذا حدث لها؟ وصولاً إلى الفصل الجميل عن حارس الفندق حسيب محمد جعفر الذي يتحول إلى روح من دون جسد، وروحه تحلق باحثة عن جسدها، بحيث يتحول السرد إلى مشاهداته من الأعلى كما فيلم غاسبار نوا “الدخول إلى فويد”.
هذه البؤرة الدرامية ستتوقف عن توليد الفعل في الرواية ما أن تتكون شخصية “الشسمه” من الأشلاء، حينها ندخل الحبكة الرئيسة أو “المجابهة” كما في القاعدة الهوليوودية الذهبية في السيناريو، فالانفجار الذي ليس إلا واحداً من آلاف حوادث التفجير يفضي إلى خلق تلك الشخصية، والتي تعيد تفعيل ما بدأت به الرواية تحت عنوان “تقرير نهائي” أي “دائرة المتابعة والتعقيب” ومجموعة العميد سرور محمد مجيد المؤلفة من المنجمين وقارئي الطالع، على شيء يذكرنا بفيلم غرانت هاسلوف “الرجال الذي يحدقون بالماعز”، الذي يرصد لكن كوميديا قصة البرنامج العسكري الأميركي المتعلق بالاستعانة بجنود ذوي قدرات عقلية خارقة في ثمانينات القرن الماضي.
تحتكم رواية أحمد سعداوي في سياق متصل مع البناء الدرامي للرواية على قدرة توثيقية للجحيم العراقي، ورصد لمفاصله على الأصعدة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهذا البناء الدرامي أي خط ترتيب الأحداث والوقائع ينجح في ما تقدم، لكن في تغليب للفعل أولاً وأخيراً في وفاء مطلق لبنية السيناريو، ولعل الوحش أو الذي لا اسم له “الشسمه” يحيل تماماً إلى ما يتخطى رعب فرانكشتاين و”السوبر هيرو” إلى مساحة أشد رحابة كامنة في فيلم فريتز لانغ “مقصورة الدكتور كاليغاري” 1920لكن من دون الحاجة إلى تنويم مغناطيسي لينفذ سيزار رغباته الاجرامية، بما جعل الفيلم مبشراً بهتلر، ففي الواقع العراقي ما يتخطى التبشير ويحعل المعاش تفوقاً على الأوهام المجنونة التي يعيشها كاليغاري، ليتحول “الشسمه” إلى “المخلّص”، إلى الابن العائد لدى أم دانيال، ومن يقدم له مريديه حياتهم وأجسادهم ليستمر بما يقوم به.
الكتاب: فرانكشتاين في بغداد
تأليف: أحمد سعداوي
دار النشر: منشورات الجمل /بيروت – بغداد 2013
عدد الصفحات: 352 من القطع المتوسط