لى عكس الشكلانيين، الذين وجدوا -حسب إيزنشتين- في “ميزان سين” الصورة، أي المونتاج قلب الفيلم السينمائي، وجد بازان في “ميزان سين، المكان، جوهر الفيلم الواقعي بعد اكتشافه أن عمق المجال البصري الواضح في إطار صورة “اللقطة/ المشهد” هو ما يتيح للمشاهد المشاركة أكثر في تجربة الفيلم، وذلك انطلاقاً من مبدأ علاقة الفيلم الفنية بالمكان، والحفاظ على زمن استمراريته، عبر عمق العدسة البؤري الواسع اي المجال (Depth of field) الذي تحده عدسة (Depth of Focus) والعمق الذي توضحه قي مقدمة الصورة/ اللقطة وفي خلفيتها أي في منطقة تقع بين الأشياء المعروضة الأكثر قربا والأكثر بعداً.
ولم يرَ بازان في تطور أسلوب “عمق المجال”، مجرد أسلوب فيلمي بديل، بل “خطوة جدلية متقدمة في تاريخ اللغة السينمائية”. وبالتالي يجب أن يرتبط شكل الفيلم ارتباطاً وثيقاً بعلاقات مكانية، أي بـ “الميزان سين”. هنالك إذن، واقع واحد فقط لا يمكن تجاهله في السينما – واقع المكان، وحينما لا يوجد حضور غير منقوص للواقع، فإن الواقع يصبح العالم الحقيقي نفسه. وعلى هذا الأساس فإن شكل الفيلم يرتبط ارتباطاً وثيقاً بعلاقات مكانية،ويكون حضور المكان مسألة ذات أهمية قصوى، لأن المكان يمنح مصداقية للأحداث ويوهم بواقعيتها، فأي حدث لا يمكن تصور وقوعه إلا ضمن إطار مكاني معين. ويؤكد هنري متران أن المكان هو الذي يؤسس الحكي لأنه يجعل الحكاية المُتَخيَّلة ذات مظهر مماثل لمظهر الحقيقة.
ينظم المونتاج الصور في الزمن أما الـ “ميزان سين” فينظم الصور في المكان. بمعنى أنّ العلاقات يتم ترتيبها داخل المكان الواحد دون اي قطع مونتاجي وليس ترتيبها في الزمان. وكما هو معروف فإن المكان لا ينفصل عن الزمان، وهما يشكلان معا وحدة لا تنفصم. غير أننا نرى أن المكان يخضع للزمان في حالة المونتاج، أما في حالة الـ “ميزان سين”، فيخضع الزمان للمكان.
وقد ابتكر غودار، باعتماده على نظرية بازان، التركيب الجدلي الأساس بين الـ “ميزان سين” والمونتاج، كوجهين مختلفين لنفس النشاط التعبيري، وبدأ بتعريف المونتاج كجزء من الـ “ميزان سين” و أصبحت عنده العلاقة بينهما تتلخص في أن يكون الـ”ميزان سين” غير صادق تماماً كالمونتاج عندما يستخدمه المخرج لتشويه الواقع أو تتلخص في ألا يكون المونتاج بالضرورة دليلاً على سوء نية المخرج. وانطلاقا من هذا الفهم فانه أعاد تعريف حدود الواقعية بحيث لم يعد يركز كثيراً على الواقع المطواع (علاقة المخرج الملموسة مع مواده الأولية) ولا على الواقع السيكولوجي (علاقة المخرج القائمة على التلاعب بالمتفرج)، بل على الواقع الذهني (علاقة المخرج الجدلية أو الحوارية مع المتفرج). عندها تكف تقنيات كالميزان سين والمونتاج أن تكون ذات اهتمام أساسي. ودأب غودار على الاقتباس من قول مأثور لبريشت حول أن “الواقعية لا تتلخص في إعادة إنتاج الواقع، بل في تبيان كيف هي الأشياء واقعيا”.
يكتب غودار: “إن المونتاج ، هو فوق كل شيء ، جزء مكمّل للميزان سين، وتُشبه محاولة فصل الـ “ميزان سين” عن المونتاج محاولة من يفصل الإيقاع عن اللحن، فما أن يسعى شخص ما إلى رؤية شيء في المكان، حتى يسعى آخر إلى رؤيته في الزمان”. أكثر من ذلك، فالـ “ميزان سين” عند غودار يتضمن المونتاج تلقائياً. ففي سينما الواقع السيكولوجي التي استمدت أصولها من بودوفكين وأثرت على أفضل ما قدمته هوليوود يستعير التركيب “وجهة نظر” شخصيات الفيلم النفسية في السرد المونتاجي ويكوّن تقريباً تعريف المونتاج”.
ونحن المعنيين -حسب غودار – أكثر بـ”صوت” الفيلم: هل يؤدي المخرج عمله بإيمان عميق؟ وهل يحدثنا مباشرة؟ وهل صمم آلة للتلاعب؟ أم أن فيلمه عبارة عن خطاب صادق؟
وكما يبدو تماما فان وظيفة المونتاج تعطي إمكانية التحكم في زمن السرد أي التحكم في طبيعة العلاقة بين الزمن الواقعي والزمن الفني، كما يبدو أن وظيفة الـ “ميزان سين” تتحكم في العلاقة الزمنية بين الزمنيين لصالح الزمن الواقعي على حساب الزمن الفني.
ختاما فإنّ كلا الاتجاهين في السينما: تكوين الصورة/ اللقطة الفيلمية المنفردة التي لا يكمن المعنى في الصورة ذاتها بل تنشأ المعاني وفقا لقانون تجاور عناصر غير متجانسة تتعارض وتتكامل في مشهد واحد: والـ “ميزان سين” الواقعي للقطة طويلة مستمرة / مشهد يكمن معناها في الموضوع المصور على حساب التأويل وللممثل على حساب المخرج ولا يكون فيها دور يذكر للمونتاج كما أنّ هذين الاتجاهين ليسا امتداداً آلياً لواحد منهما بل نتاج لتركيبهما المعقد وتناقضهما الجدلي.