سؤال العلاقة بين المونتاج والسيناريو الادبي
العدد 159 | 06 تشرين الأول 2014
قيس الزبيدي


عرَّفَ بيلا بالاج المونتاج بداية كتوليف لتفاصيل صور/لقطات مجزأة  في سياق منظم لا تتعاقب فيه فقط مشاهد كاملة، بل أيضاً كل تفاصيل اللقطات المختلفة داخل المشهد الواحد. وينتج عن التتابع زمن المشهد فنياً. ورأى لاحقاً أن السيناريو ما سيحدد تاريخ السينما. لكن تاريخ السينما بيَّن أن سرد الحكاية يخضع الى “نواظم” وان هذه “النواظم” ليست سوى طرق وأشكال المونتاج التي يتم الاستعانة بها في سرد حبكة الحكاية.

بدوره أكد ميخائيل روم أن خصيصة الفيلم تتشكل من عناصر مبعثرة في كل متماسك موحد، وأن الكل المتماسك الموحد يبدأ العمل عليه في السيناريو الأدبي كأساس للفيلم. ونفهم من ذلك أن المونتاج هو انتقاء وتزمين وتركيب اللقطات المصورة وفق استمرارية تنشأ دلالتها من التجزئة، ويمكن فصل أي لقطة ما عن سياقها وتركيبها مع لقطات أخرى وفق قوانين الربط والتجاور. وهذه الاستمرارية هي الاساس لتقسيم النص السينمائي الادبي إلى لقطات، بحيث يتم التغلب على عزلة أي لقطة منها من خلال  التعاقب الزمني بفضل المونتاج.

 ليس المونتاج مجرد عملية تقنية صرف، إنما مقولة جمالية فنية. والمهم هو كيف يتم فيلميا سرد ماذا في الحكاية. وإنْ التركيب والتزمين يخضعان، في علاقة تبادل جدلية بين المونتاج ودراموتورغيا السيناريو بحيث يتم تحديد الحلول المبدئية للمونتاج اللاحق قبل عملية كتابة نص التصوير.

 غير اننا إذ نعود الى تاريخ الطرق المونتاجية تاريخيا، نكتشف العديد من الاشكال التي لا تتفرع من طريقة واحدة بل من طرق عديدة.  وفي عام 1926 حلل تيموشنكو 15 طريقة في عملية الانتقال من مشهد إلى آخر. وسعى أيضا ميخائيل روم إلى تصنيف طرق المونتاج الأساس، لكن فيلونوف الأستاذ في معهد “فكيك” السينمائي وصف 11 طريقة أساسية للمونتاج المعاصر و 12 طريقة لأشكال مونتاج خليطة. وهناك من  صنف أشكال  المونتاج في 26 شكل مونتاجي! 

ورغم أن هناك من يخلط بين الاشكال، كما يخلط بين الطرق فإنه من المهم أن يكون الهدف من المونتاج ضم كل شيء مع كل شيء، كما ينتج عن هذا الضم أسلوبية فنيه تحدد دائما علاقات العناصر المونتاجية بعضها مع بعض ومع كلية العمل الفني، لأن وظيفة المونتاج في الأساس سردية، مع أن أسلوب السرد قد يختلف في هذا الشكل أو ذاك إلا أن تكرارها يتعرض للتحوير: بودفكين، مثلاً، كان يميل إلى أسلوب سردي نثري بينما سعى إيزنشتين الى أسلوب سردي شعري.

اتخذت وظائف المونتاج عبر تاريخ السينما طرقاً وأشكالاً عديدة لكنها في نهاية الامر كما نعتقد تحددت في مجموعتين: المجموعة الأولى تنتمي إلى بنية أفقية طبيعتها تكمن في سرد عناصر بصرية وفقاً لقانون التجاور عبر التعارض والتكامل لعناصر صورية غير متجانسة. وتنتمي المجموعة الثانية إلى بنية عمودية في سرد عناصر بصرية متزامنة. ويخضع التزامن السمعي/البصري  في كلتا المجوعتين للمونتاج العمودي بأشكاله المختلفة.

المونتاج الافقي: 

تنظيم الصور في الزمان: أي طريقة مونتاج اساسية اعتمدها إيزنشتين في دراسته ( المونتاج- 1938 ) التي حاول أن يعيد النظر فيها من جديد في مفهوم المونتاج وسماها: “تقابل/ “Gegeuberstellung بين جزئي لقطتين/صورتين متجاورتين (مونتاج أفقي) ينتج عنهما معنى جديد غير موجود في أي “لقطة” منفصلة وأوضحه على الشكل التالي: جزء (أ) من العناصر يتم اختيارها من موضوع  يتطور الى  جزء (ب) المشتق من نفس المصدر ويولدان في “تقابل” ذلك التعميم الصُوري الذي يجسد بدوره مضمون الموضوع العام بشكل واضح. و”إذا ما تم تركيب أي (لقطتين)،  فإنهما يتوحدان في تصور جديد، وينشأ من تقابلهما دلالة جديدة حتماً: أي أن جمع قطعتا مونتاج “لقطتين” لا يساوي حاصل جمعهما، بل هو، أكثر من ذلك، نتيجة جديدة نوعياً، تولّد “معنى ثالثا”.

يحصل المونتاج الأفقي حينما تقيم  اللقطات الصغرى التي تصور بشكل مستمر، وتدمج كوحدات لبنية سرد الحكاية لتقيم بينها علاقة متتابعة: واحدة بعد الاخرى. ولكي يكون بمقدور عنصري لقطتين أن يأتلفا معاً لابد أولا أن يوجدا منفصلين. ويتم تنظيم تتابع الصور في الزمن بشكل افقي عبر تكثيف او إطالة الزمن فنياً، وبالتالي يعد شرط ظهور الزمن الفني تجاوزاً للزمن الواقعي. وترتبط كل لقطة بغيرها خطياً/ افقياً كما ترتبط اللقطة بنفسها: أي أن كل لقطة تجاور لقطة أخرى أو تقابل لقطة ثانية أو تكون كل لقطة ضد اللقطة التالية. وينتج في مثل هذا المبدأ التوليفي إدراك كل عنصر مونتاج تحت انطباع العنصر السابق: لقطات تتبع لقطات أو مشاهد تتبع مشاهد. ويتم التأثير السيكولوجي في هذه الحالة أيضا من تأثير اللقطة الأولى على الثانية أو من تأثير المشهد على المشهد الثاني وهكذا تنشأ الدلالة والمعاني عبر هذا التجاور. وينطبق هذا المبدأ على السيكوينس: مشاهد أو لقطات تتابع ويلي بعضها البعض. ويتم التأثير النفسي عبر الصور التي يتم استقبالها تحت تأثير الصور المتتابعة.

المونتاج العمودي:

تنظيم الصور في المكان: أي ارتباط اللقطة بنفسها بحيث تتزامن داخلها  لقطة اخرى  في آن واحد، وينتج عن هذا التزامن استمرار المكان الذي يُبْنى فنياً بشكل عمودي: تزامن  أكثر من صورة واحدة  في مشهد واحد. فعلى عكس المونتاج المتوازي الذي يجري فيه حدثان في زمن واحد في  مكانين متباعدين، يجري في المونتاج العمودي حدثان يتزامنان في مكان واحد: مونتاج داخلي. وعلى العكس أيضا من المونتاج الافقي الذي يتشكل من زمن فني ولا يتطابق فيه زمن المشهد مع الزمن الواقعي، فإن المونتاج العمودي يتشكل من تطابق الزمن الفني والزمن الواقعي وذلك عبر التزامن والتناسق بين حركة الأشخاص والأشياء وبين حركة آلة التصوير في مونتاج داخلي دون اي انقطاع زمني في المشهد الذي تتوحد فيه  العلاقة التعبيرية بين زمن الميزان كادر: اللقطة ومكان الميزان سين: المشهد.

وهذا ما سنوضحه في مرة قادمة؟


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."