كان ينبغي أنْ يتكهّن بحدوثه.
لقد كانت حياته سلسلة من عثرات الحظ. ليست مجرد أحاسيس مُسبَقة تنتابه قبل النوم وبعده، بل أخطار حقيقية وحاضرة في العالم الواقعي. أعمدة مصابيح نور وأشجار تُحدِّق إليه، وكسر قصبتيّ ساقيه. سيارات مُسرعة تفقد السيطرة وتندفع إلى الممشى وتتركه مُلقى على ركام من مناديل الورق المُمزقة والعِظام المشوَّهة. وأشياء حادة تسقط من سقالات بناء وتخترق جمجمته.
والنساء هنّ الأسوأ. فعندما تمرُّ امرأةٌ من النوع الذي يعتبره جوليان تريسلوف جميلاً في الطريق فليس جسده الذي يتأثّر بقوة بل عقله. لقد هشّمتْ هدوءه.
صحيح، لم يكن هادئاً، لكنها هشّمت الهدوء المأمول أنْ يتشكّل في المستقبل. كانت هي ذلك الهدوء.
إنَّ الأشخاص الذين في مقدورهم أنْ يتكهنوا بما سيحدث يرتكبون أخطاء في التسلسل التاريخي، هذا كل ما في الأمر. لقد كانت ساعات تريسلوف كلها مُخطئة. فما إنْ رأى المرأة حتى رأى ما سينتج بعد ذلك – عرضه للزواج منها وقبولها، والبيت الذي سيبنيانه معاً، وستائر الحرير المرفهة التي ترشح ضوءاًُ قرمزياً، وأغطية الأسرّة التي تنتفخ كالسُحب، وحزم الدخان ذات الرائحة الذكية التي تتصاعد من المدخنة – ومن ثم تفرّقها الرياح – وأسقفه الآجر القرمزية المتشابكة، وقِبابه ونوافذه البارزة، وسعادته، ومستقبله – تنهال كلها عليه لحظة مرورها به.
إنها لم تتركه من أجل رجل آخر، أو تُخبره أنها ملّته وملّت حياتهما معاً، بل مرّت مبتعدة كما في حلمٍ مثالي عن الحب المأساوي – مُرهقة، مُبللة الرموش، وتودعه بعبارات مُستعارة من أوبرا إيطالية شائعة.
لم يكن هناك طفل. الأطفال يُفسدون القصّة.
بين أعمدة النور المُحدِّقة وحجارة البناء المنهارة كان أحياناً يُفاجئ نفسه وهو يتدرّب على كلماته الأخيرة لها – وأيضاً كثيراً ما كان يستعير مقاطع من الأوبرات الإيطالية الشائعة – وكأنَّ الزمن اكتسبَ تناغماً، وقلبه تحطّم، وهي تحتضر حتى قبل أنْ يُقابلها.
كان هناك شيء رائع بالنسبة إلى تريسلوف في تقديمه للمرأة التي أحبَّ وهي تحتضر بين ذراعيه. أحياناً كان هو الذي يحتضر بين ذراعيها، لكنَّ احتضارها بين ذراعيه كان أفضل. الأمر يكمن في الطريقة التي بها عرِفَ أنه عاشق : لا شعور مُسبق باحتضارها، لا عرض زواج.
تلك كانت شاعريّة حياته. في الواقع كان الأمر كله يتعلَّق بنساء يتّهمنه بإخماده طاقتهنّ الإبداعية وبهجرهنّ له.
على أرض الواقع لم يكن هناك أطفال.
ولكن ما بعد أرض الواقع كان هناك شيء يومئ.
في أثناء قضائه عطلة مدرسية في برشلونة دفع نقوداً لعرّافة غجرية لكي تقرأ له طالعه من يده.
قالت له ” أرى امرأة “
فرح ترسلوف. ” أهي جميلة ؟ “
أخبرته الغجرية ” في رأيي، كلا. ولكن بالنسبة إليك… ربما. أرى أيضاً خطراً “
ازدادت إثارة تريسلوف. ” كيف سأعرف أني قابلتها ؟ “
” ستعرف “
” ألها اسم ؟ “
قالت الغجرية، وهي تثني إبهامها، ” عادة، ذِكر الأسماء خدمة إضافية. ولكني سأقدم استثناءً لك لأنكَ شابّ. إنني أرى امرأة اسمها جونو – أتعرف امرأة اسمها جونو ؟ “
لفظَتْ الاسم ” هونو “. ولكن فقط عندما تذكّرتْ.
أغمضَ تريسلوف إحدى عينيه. جونو ؟ هل أعرف امرأة اسمها جونو ؟ هل يمكن لأي شخص أنْ يعرف امرأة اسمها جونو ؟ كلا، آسف، كلا، إنه لا يعرف. لكنه كان يعرف واحدة اسمها جون.
” كلا، كلا إنه أكبر من جون “. بدت منزعجة منه لأنه لم يتمكن من تذكُّر اسم أكبر من جون. ” جودي… جوليا… جوديث. هل تعرف امرأة اسمها جوديث ؟ “
جوديث.
هزَّ تريسلوف رأسه نفياً. لكنّه أحبَّ جرسه – جوليان وجوديث. هليان وهوديث تريسلوف.
” في الواقع إنها في انتظارك، تلك التي اسمها جولي أو جوديث أو جونو… لا زلتُ أرى جونو “
أغمضَ تريسلوف عينيه. جونو، جونو…
سأل ” إلى متى ستنتظر ؟ “
” إلى أنْ تعثر عليها “
تخيَّل تريسلوف نفسه يبحث، يفتش البحار السبعة. ” قلتِ إنكِ ترين خطراً. إلى أي مدى هي خطرة ؟ “
رآها تحدِّقُ إليه، وخنجر مُسلَّطٌ على نِحرها – Addio