تبعد وتسيبني
العدد 264 | 14 أيار 2021
مالك م. رابح


تركتُ بابا على مائدة الإفطار. حملتُ حقيبتي ونزلتُ إلى العمل. بمحاذاة إحدى المكتبات، وكما لو كان بتحفيز من الكتب في الواجهة، أدركتُ أني نسيت أوراقًا هامة. هكذا عدت.

ما إن فتحتُ الباب سمعتُ صوت ارتطام الماء بقاع الحوض المعدني. كان بابا في المطبخ. بعد تقاعده صار يشارك في أعمال البيت بطريقة خرقاء. أنت تعرف هذا. هل تتذكر تعليمات ماما الحادة التي كانت تلاحقه؟ أكثر من مرة عاتَبتْه على تركه صنبور المياه مفتوحًا أثناء غسل الأطباق.

لم أسحب مفاتيحي من الباب، تركتها هناك في الثقب. كنت متأخرة ومتعجلة فتعثرتُ بالسجادة وهكذا، واستوقفني غناء بابا: “أحسن لك تبعد وتسيبني”.

هل تذكر ما قلتَ لي قبل أن تسافر وتعود لمنزلك؟ شاركتني قلقي لرؤية بابا يخطئ في حسابات المشتريات البسيطة وتنسيق ملابسه، يصطدم إصبع قدمه الأصغر بأرجل المناضد والكراسي وتسقط منه الأطباق والأكواب. بعدما تعثّرتُ بطرف السجادة، بالضبط كما كان يحدث مع بابا، لم أستطع سوى التفكير فيما قلت: بابا تسقط منه الأشياء حتى لا يسقط هو.

هذا ما قلته، ولا بد، فكّرت، أنه الإشفاق على أختك الصغيرة ما جعلك تضيف أنه قريبًا سيكون على ما يرام ويعود إلى طبيعته. أقول هذا لأنه، حتى صباح اليوم، كل شيء كان كما تركته. لم يعد بابا لحل الكلمات المُتقاطعة في الصباحات الباكرة جالسًا في الشرفة يلعن الذباب وموقف السيارات القريب. لم يعد لسقي النباتات في الأصص أو التشكي من حال البلد والإصلاحات التي قلبت المدينة خرابة. مُباريات الأهلي لا تجد من يُتابعها، والأبواب التي تعودت أن تُفتح بغتةً يُنقر عليها الآن. يمكنك أن تقول إنه الرجل نفسه الذي عاد من جنازة ماما فجلس أمام التلفزيون، تحت نظرات زوجتك المتعجبة، وشاهد النصف الثاني من فيلم – ماذا كان؟ لفاتن حمامة وشكري سرحان، “ابن النيل”. تذكّرت. الفيلم اسمه “ابن النيل”، وبعد انتهائه أمضى ساعة مع برنامج للطبخ وعندما سألناه عن حاله: “بابا هل أنت بخير؟” قال “بخير”، وقف أمام حجرته وقال “بخير. تصبحوا على خير”. أغلق الباب.

وفي اليوم التالي عندما استيقظنا وجدناه قد اشترى الإفطار. لم يأكل معنا. ظَل يُقسم أنه قَد أكل لكننا كُنا نعرف – أنا وأنت – أنه لم يفعل. قلتَ لي إن أفضل شيء يُمكن فعله هو أن نتركه في حاله. طفل عجوز حائر جلس في أحد الأركان، أغلق أبواب الحديث بإيماءة مُتعبة، في حِجره ابنك، حفيده، والقط الرومي السمين الذي ذهب عنه الخوف من ماما رغم أنه أحيانًا كان يلتفت في فزع ناحية الباب كما لو كان يتوقع أن تدخل مُسرعة في مريلة المطبخ وعصبة رأسها لتطرده.

تخيّل يا أخي هذا القط وقف جواري أمام المطبخ ولسبب ما كان يحبس أنفاسه مثلي.

“أصل انت هواك راح يتعبني”، غنّى بابا في المطبخ، كان صوتهُ هادئًا وهشًا، ومُتناسقًا مع طريقته في غسل الأطباق، “أشوف أمورك أستعجب”، ظهره لي ومَحنّي ويده اليمنى ترتعش حين يضع الأطباق التي انتهى من غسلها على صينية قريبة.” أسمع كلامك تعجبني”.

هو وماما لم يتشاجرا كثيرًا والمشاجرات التي كانت تحدث لم تستمر طويلًا. تختلف البدايات كُل مرة لكن النهاية دائمًا واحدة: عرض مسرحي لأطفال لم يذهبوا يومًا إلى المسرح، أغنية أَحبَّاها معًا تتكرر أمامنا. تعرف كيف كانت تسير الأمور، لا يهم إن كانا في غرف مُنفصلة أو في الغرفة نفسها، كان الطرف الذي يغلبه الشوق إلى الآخر، سواء كان مُخطئًا أم لا، يُغني تلك الأغنية القديمة لبدرية السيد: “أشوف أمورك أستعجب، أسمع كلامك تعجبني، وتعجبني”. حتى يصل إلى “في كُل ساعة بتتغير وأنا قلبي جنبك متحير”، ويظل يعيدها وما سبقها فإذا كان القبول والرضا أكمل الآخر “فِكرك هوايا دَه صغير ولّا انت ناوي تدوّبني”، عندها كُنّا نصنع جلبة ونصفق في فرح. آه يا ربي كم أشتاق لتلك الأيام.

أتذكر مرة ظلّ بابا يُغني الأغنية قرابة ساعة وماما لا تُريد إكمالها، كُنّا صغاراً نتمسكن ونجذب يدها ونمد أيدينا تجاه بابا فتدفعنا بلطف وتعود لتَقشير البطاطس. كُنّا نعرف أنه ليس لأحدهما سوى الآخر وأن الأمور ستكون على ما يرام لكن يبدو أن شيئًا في عدم اكتمال الأغنية، يتغذى على الأمل وذكريات العجائز والتي تتضاعف وتزداد قسوة في كُل فترة صمت في انتظار العبارة الأخيرة، كان عدم اكتمالها يعض جلدنا الناعم حتى نكاد نصرخ في هَلع: “ما تصالحيه بَقى يا ماما، يا ماما حرام عليك”.

“في كُل ساعة بتتغير وأنا قلبي منك متحير”، كررها بابا ثلاث مرات بعدها أغلق صنبور المياه واستند بكوعيه على الحوض وهكذا فعلت ما وجب على فعله ما جعل القط ينتفض من مكانه: “غنّيت فكرك هوايا ده صغير ولّا انت ناوي تغلبّني”.

التفت بابا ببطء. كان يبتسم. يبدو أنك على حق، في النهاية.

*****

خاص بأوكسجين