بورخيس
العدد 148 | 24 آذار 2014
ممدوح رزق


أعد لكتابة رواية يدور جزء كبير من أحداثها في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي بـ “المنصورة” .. أدخل صالة فندق “مكة” لأنتظر موزع مخدرات سابق سيحكي لي ما أحتاج معرفته من تفاصيل بعض الأماكن والشخصيات والأحداث في تلك الفترة .. جلست وطلبت زجاجة بيرة، وبعد إشعال سيجارة انتبهت إلى موسيقى Hotel California  لـ The Eagles ، وإلى الشاب الجالس على الطاولة المقابلة لي .. كان منهمكا في كتابة أوراق فلوسكاب كثيرة داخل ملف ملصق على غلافه مقال لـ “مي التلمساني” منتزع من أحد أعداد مجلة “الفن السابع” عن فيلم “تفكيك هاري” لـ “وودي آلن” .. دون تردد قلت له:

ـ عادي جداً ألا يحبك بعض الناس .. أن يكرهونك أو لا يرتاحون إليك لأي سبب: شخصيتك .. أفكارك .. طريقتك في الكلام أو حتى شكلك، وهذا لا يعني وجود أخطاء لديك أو أن عندهم مشكلة .. أنت لا تحب بعض الناس لأسباب كهذه، لذا فليس عليك سوى أن تتذكر دائماً بأن الآخرين لديهم نفس هذا الحق الذي تمتلكه.

 

رفع رأسه إليّ وابتسم ثم قال وعيناه فيهما إدعاء القدرة على مواجهة الطيش المفاجىء للغرباء:

ـ هذا على أساس أنك تريد أن توّفر عليّ شقاء كل هذه السنوات التي بيننا؟ .. أنك لا تعرف أن حياتي ليست سوى قرارات غير متوقعة بفعل صدف مجنونة تجعل الأشياء تحدث في مواعيد مناسبة لطبيعة لا يمكن تغييرها أو حتى التأثير فيها .. أنت تعرف تماماً أنني في مرحلة الهوس بمحاولة الحصول على هيبة دائمة لصورتي أمام الآخرين، وتعرف أيضاً أن العزاء يكمن فقط في تذكر كتاب اليوميات الذي لم تنجح في كتابته أنت حتى الآن لتبرير ومعالجة الفشل في هذا بالكتابة ثم توزيع ذلك الكتاب على كل من عرفتهم في حياتك ومن لم تعرفهم لتعطيهم درسك التأديبي الكامل والنهائي.. بما أنك متأكد من أنني لن أتجاوز هذه المرحلة إلا في الموعد الذي تدركه جيداً مهما حدث؛ فكلامك في حقيقته محاولة للتفاوض مع القلق الذي تشعر به نتيجة ظهور هذه الحكمة التي قلتها لي الآن في داخلك فجأة واقتناعك الفوري بها.. المشكلة أنك وجدت نفسك متورطا في الحالة التي تحاربها دائما: الشخص الذي عثر ببساطة على يقين لم يجد أي صعوبة في تثبيت صحته، وللدرجة التي جعلتك تتساءل باستغراب هائل كيف لم تنتبه لهذا القانون البسيط والبديهي من قبل .. أنت مرتبك بسبب الارتياح الذهني الذي أصابك بعد اكتشاف حل سهل وواضح لعذاب شرس ظل يلازم ماضيك .. لكن أخبرني بصراحة: هل أنت بحاجة فعلا لأن أطمئنك بأن الحلول التي تبدو راسخة ـ حتى لو بدت لك مجهولة الآن ـ ليست سوى غنائم يائسة ومخادعة للكتابة في حرب غير قابلة لأن يحسم فيها أي شيء؟!

 

لفترة تمنيت ألا يشعر بمدى طولها ظللت أحدق في وجهه صامتاً، محاولاً بقدر ما أستطيع إخفاء دهشتي وارتباكي من معرفته للمستقبل التي واجه بها معرفتي للماضي .. كنت متأكداً من أن إدعاءه القدرة على التعامل مع المفاجآت كان كاذباً، ولكن يبدو أن المسافة الذهنية التي تصورتها قائمة بيني وبينه لم تكن بالحدة التي تظهر عليها الأمر الذي لم يجعلني غريباً عنه .. كأن تلك السنوات الطويلة جعلتنا أكثر اقتراباً رغم قوة الانفصال التي لا أشك أنه يشعر بها تماماً مثلي .. ابتسمت، وقررت الاستمرار في الكشف عن ما ينتظره بحرص على انتقاء موضوع لا يخلق خلافاً بيننا، وفي نفس الوقت لا تؤثر معرفته له على أعصابي التالفة في تلك اللحظة الغريبة:

ـ عموما هناك أشياء لن تتغير .. ستظل مثلا تحب كتاب “الصوت المنفرد” لـ “فرانك أوكونور”، بل وسيزيد حبك له، وستظل تعيد قراءته دائماً خاصة في أوقات الضيق والإحباط المرتبطة بعملك، وحتى إذا مر وقت طويل دون أن تفتحه ستستمر في النظر إلى غلافه من حين لآخر وهو ساكن في مكتبتك .. سيكون اكتشافك لـ “شوبنهاور” حدثاً هاماً للغاية في حياتك، وسيفوق مقابلتك لـ “نيتشه”، و”كيركيجارد” .. سترى أن ذلك سيكون مقدمة طبيعية للتوافق مع “فوكو”، “بارت”، “دريدا”، “ليوتار”، “رورتي”، وبشكل تلقائي سيكون لديك في كتاباتك النقدية تصوراً شخصياً ستعلق عليه لافتة مؤقتة وغير معلنة مكتوب عليها “مفاتيح التفكيك”، وستظل تؤجل شرحه نظرياً لحين الانتهاء من حصيلة معقولة من التطبيق على الأعمال الأدبية المختلفة حتى تقرأ بالصدفة ذات يوم مقالا بموقع “جدلية” عن كتاب “بعد ما بعد الحداثة: مقالات في الأدائية وتطبيقات في السرد والسينما والفن” لـ “راؤول ايشلمان”، ترجمة “أماني أبو رحمة” لتجد شرحا لأفكارك فتشعر بالسعادة لعثورك على ما يدعم ذلك التصور، ويمثل مرجعا هاما حينما يأتي وقت الكتابة النظرية.

 

أطلق الشاب ضحكة قوية بدت أقرب إلى الشخرة فشعرت بسخونة المهانة تحرق وجهي، لكنني لم أرغب في خسارة نتيجة هذا اللقاء برد فعل غاضب .. تظاهرت ـ رغم رعشة جسدي العنيفة ـ بالهدوء، مقرراً تصدير انطباع مختلف يدعي أنني أحاول خداعه فعلا طالما وضحت قدرته على تعريتي بهذا الشكل .. نظرت إليه بخبث تمثيلي لأبلغه دون كلمة واحدة بأنه على حق، وأن كل ما أخبره به ليس إلا كوميديا مقصودة .. كانت مهمتي الآن مركزة على كيفية إفهامه بأن تلك الكوميديا ليس لها هدف سوى التسلية والاستمتاع بالشغف الكامن في صدفة كهذه، لكنه بدا مصمما على أنني أحاول استخدامه في قتل أمراضي .. قال وآثار ضحكته المنتهية لازالت فوق ملامحه:

ـ جميل جداً يا من عرفت من هو الفنان الحقيقي، وما هي المعايير والسمات الأكيدة للتحقق .. رائع جداً يا من أدركت ما هي البداية، وما هو التطور، وما هو العالم الأدبي الخاص .. مبروك عليك توقفك عن كتابة برامج الحياة والكتابة والعلاقات .. يا ريت كل بني آدم يتحول مثلك إلى شخصيتين: واحدة تعيش والأخرى تتفرج طوال الوقت بمتعة واطمئنان على الفيديو كليب الخاص بالأولى .. أليس هذا حلمي الذي لازلت أعيد كتابته مرارا وتكرارا بأشكال مختلفة وحققته أنت أخيراً؟ 

 

فجأة دخلت صالة الفندق فتاة جميلة ونحيفة ابتسمت له ثم جلست بجواره .. نظرت إليها بذهول وقلت له:

ـ أنا عمري ما قابلتها هنا… !!!

اختفت ملامح التهكم من وجهه وقال بجدية:

ـ أنت أصلا لم تأتِ إلى هنا من قبل .. كل ما في الأمر أنك تحلم بي.

شعرت بدقات قلبي تتسارع بقوة، ودوار ثقيل يقبض على رأسي فابتسم وتابع كلامه:

ـ أنا أيضاً أحلم بك الآن.

حاولت أن أبدو متماسكا لكن صوتي خانني برجفته وخفوته وأنا أقول له:

ـ طالما تحلم بي؛ لماذا لا تعتبر هذا الحلم قرارا غير متوقع بفعل صدفة مجنونة أخرى، وأن الذي يحدث الآن يتم في ميعاده المناسب كما ذكرت لي من قبل؟! .. لماذا لا تتصرف بعد الاستيقاظ من هذا الحلم وفقا للمعرفة التي حصلت عليها منه ؟! .. أستطيع أن أخبرك مثلا عن أبيك وأمك وأخويك وجدتك، عن بعض التسجيلات النادرة لمسرحيات “ اسماعيل ياسين “ التي ستضيع منك أو عن ما سيحدث بعد زواجك بهذه البنت وبعد أن تنجبا طفلة …

قاطعتني ضحكتها العالية التي لم تتناسب مع قسماتها الرقيقة والهادئة .. نظر إليها والابتسامة لم تغادر شفتيه ثم التفت لي وقال:

ـ لأنني ـ كعادتك ـ لن أتذكر شيئا مما حدث بعد الاستيقاظ.. أنت غالبا تنسى الأحلام، وهذا الحلم أنت لن تتذكر سوى تفاصيل مبتورة وشاحبة منه، ولن تمتلك تأكيدا على وجودها .. مثل كل مرة خيالك هو الذي سيكتب هذا اللقاء.. أما من سيتذكره حقا وبدقة متناهية شخص ثالث يحلم بنا الآن.. سيعيد حكي كل شيء كنكتة.. كتاريخ غير مهم على الإطلاق قد ينتقل من ذاكرة إلى أخرى بفعل احتمالات كلامية فائدتها الوحيدة تمضية الوقت بأخف وطأة ممكنة.

 

نهض الاثنان من أمامي وخرجا من صالة الفندق وأنا أتابعهما برغبة عظيمة في الضحك والبكاء، وفي اللحظة التي شعرت فيها مستغربا بانتصاب عضوي رن موبايلي فاستيقظت لأرد.. وجدت موزع المخدرات السابق يعتذر لي عن عدم الحضور بسبب تأخره في النوم، ثم أخبرني وهو يضحك بشدة بأنه عند مقابلتي له في موعد آخر سيحكي لي عن حلم غريب رآني فيه أمشي في شوارع المنصورة بملابس فرعونية ممسكا ميكروفون لأحكي للناس كيف يقنع الشيوخ المسيحيات بدخول الإسلام.

__________________________________

كاتب من مصر/ من مجموعة “مكان جيد لسلحفاة محنطة” الصادرة عن سلسلة حروف ـ الهيئة العامة لقصور الثقافة.

 

الصورة للمخرج المصري عمرو بيومي

*****

خاص بأوكسجين