كان يخدم في الجيش حين صعد ذات إجازة إلى غرفة ٍ في إحدى الفنادق المحيطة بساحة المرجة، و دفع مبلغاً غير زهيد مقابل ساعة مع إحدى النساء، و ما بقي في ذاكرته و ظلّ يكرره دائماً في سكراتنا، أنه خرج لا بمتعة ٍ أو خذلان جسدي، بل بعارٍ يتلبسه مغتاظاً من البنت الشرموطة التي تصرفت بلا مبالاة، تعرّت بطريقة ميكانيكية ثم تمددت على السرير مباعدة بين ساقيها المنثنيتين جانباً، لم تقبّله، لم تلفّه بذراعها، وبينما هو منهمكٌ في المضاجعة، ظلّت هي تفصفص بزر الشمس و تتفرج من وراء كتفه اليسرى على تلفاز معلق، بل و تضحك بين فينة و أخرى على مشاهد هزلية مقتطفة من مسرحيات عادل إمام.
كان يشرب ليسكر، و حين نلعب الورق يستسلم في منتصف اللعبة ويرمي الورق على الأرض دون أي إعتبار، ثم شيئاً فشيئاً أخذ يميل للثرثرة، و يتصرف بغرابة، يتطيّر من العميان، يسخر من الصلعان والذين يملكون إصبعاً زائداً في اليد، ويقرص الأطفال المنغوليين حتى يصرخون، و أكثر من ذلك صار مقتنعاً بأن الشرّ ملح الحياة، و أننا ينبغي ألا ننسى أسلافنا، أسلافنا: نموا من حيوانات غير مدّجنة تدرّجت على هذه الأرض.
أحبَّ كثيراً لكنه لم يمتلك قلب امرأة، و كان الحب يجعل منه معتوهاً، و آخر مرة رأيته فيها كان في مدخل بنايتنا حين جاء ليزورني، لكنه لم يتعرف علي، كان يمتلك في تلك الليلة نظرة الشر، نظرة الفولاذ القاسية اللامعة، نظرة رودجين في رواية الأبله.
حلت الحرب بلعناتها.
غير اسمه، و أصبح كما يظن شخصاً آخر.
أصبح مقاتلاً يتأبط الكلاشينكوف أحياناً، أحياناً اللابتوب، قال أنه وجد نفسه أخيراً، وعلى الشات كان يحاول أن يقنعني بفكرة ما، يومئ بجمل غامضة، ثم ذكر بأن فتاة مسيحية، رفيقة له في الجبهة، اصطحبته إلى كنيسة كان في فنائها الأمامي أكثر من خمسين طاووساً، لن أكمل ما سيحصل له فيما بعد، ففي ذلك النهار، توقف لبرهة ثم ناول صديقته اللابتوب، و أخذ يلاحق الطواويس في فناء الكنيسة محاولاً الإمساك بإحداها، لكن الطواويس راوغته في جميع الجهات، حول الأشجار، في الهواء، بين أقدام المصلين الذين توقفوا على مصطبة أمام الباب ليراقبوا شاباً تائهاً يحرك أذرعه في الهواء ببلاهة.
الصديقة المسيحية تضحك منه، له، عليه، ضاع في التخمين، الطواويس ترتفع من حوله، أمامه، خلفه، و هو يتضاءل حتى لم يعد موجوداً.
أظنه بقي مؤرقاً حتى الفجر ففي الرابعة تقريباً كتب لي sms يقول فيها:
بالأمس فقط، اكتشفت أن الطواويس تطير.
***
أقرب إلى يدي
كان يعاني من الحمّى، يغمغم، يهذي:
“إيلا” و عرفت فيما بعد أنها زوجته،
“بيترا” ابنته،
“أوشفيتز” و أنه قد اعْتِقل في 1942 من قبل الغستابو، لينجو من الإعدام بإعجوبة لكن دون شعر و لا أسنان.
كنتُ في سريري المعدني القابل للطي تحت شبكة تقيني من البعوض، حين استيقظَ، تناولتُ ساقه اليمنى بيدي لأرى آثار عضة الأفعى، و بقيت أراقبه حتى عاد نبضه طبيعياً.
“ويتمان،
برنارد ويتمان، كيف حالك صديقي؟”
كان يحملق بعينين زائغتين، فأردفت دون أن أنتظر جوابه :
“ماير
دكتور ماير، صديقك من بون.”
القطار كان بطيئاً بين بغداد و كركوك،
في السليمانية مضى إلى عربت في سيارة اللاندروفر التابعة لشركة الطرق، فيما بقيت حتى أيقنت أن الحياة تمضي أسرع مما نظن، هرمت مع الحرب فجأةً فيما زوجتي التي من فيينا ما تزال تخونني مع الأكراد، لا عزاء في هذه البرية سوى الرسائل، و دقات أجراس كولونيا ترتفع من إذاعة الموجة الألمانية مساء الأحد، كنتُ آمل أن أنجو، و حين نجوتُ عرفت أنني ما نجوت، تخلّيتُ عن كل شيء ورائي، وجئت لأدفن نفسي بين المرضى، بين رجال كالحين و نساء ملتفات في العباءات، ارتكبت أخطاء طبية اُستدعى لأجلها إلى المحكمة، و آثاماً بحق الآخرين، تعلّمتُ أن حياتنا البيضاء النظيفة المرتبة يمكن أن تُطوى بعناية لتُرمى كمناديل تُسْتعمل لمرةٍ واحدة.
في المطعم
صاح برنارد: “ألا يوجد ابن حرام ألماني هنا لأتفاهم معه؟” فضحكنا ثم ناكفته:
“ألستَ الجوكر، ألست تدوّن أسماء الحيونات وألقاب العشائر لتؤسس لحياة جديدة، ألست تستشهد دائماً بمثلنا (بلاد أخرى، عادات أخرى)، فتقبّل ما يحدث لك”، فسكب البيرة على الطاولة، حدّق في عيني و قال :
“سيموت أحدٌ منا.”
لم أكن مهيأً
كنتُ أقرأ كافكا في الليل،
و أعتني بحديقتي من أزهار عباد الشمس
لكن
قارورة السمّ كانت أقرب إلى يدي.
*****
خاص بأوكسجين