السيدة وحيوان القاقم
العدد 239 | 16 كانون الأول 2018
كاصد محمد


إن أحد أهم الفروض المقدسة، فنيًا، عند زيارتك مدينة “كروكوف” الپولندية هو التمتع بمشاهدة إحدى روائع دا فنشي الفريدة، إذ لا تكتمل زيارة تلك المدينة الخلابة دون المرور بالمتحف الوطني في كركوف ومشاهدة لوحة “السيدة وحيوان القاقم”. حال دخولك المتحف، على جهة اليسار، تجد مكتب قطع التذاكر. سعر التذكرة عشرون زلوتي، العملة المحلية في پولندا ، أي ما يقارب الست دولارات.

صعدتُّ السلم الواقع على جهة اليمين وقبل وصولي إلى الطابق الاول وجدت أمامي عبارة باللغة الانكليزية: (LEONARDO IS HERE). إذن ليوناردو هنا، قلت في نفسي، ولكن ماذا يوجد من ليوناردو ها هنا؟ خطر في ذهني أن هناك بعض مخطوطاته او ربما بعض ابتكاراته العلمية المعروضة في المتحف، فضلًا عن تحفته الفنية الآنفة الذكر. وصلت إلى الطابق الأول وفوجئتُ بصالة مظلمة، على جهة اليسار، يبتلع ظلامها كل من يدخل إليها. سرت بتؤدة تاركًا الظلام يغشاني، فوجدت نفسي وسط أناس لا أتبين شيئًا من ملامحهم، جميعهم يصوّبون الانظار ناحية ركن من الصالة يغشاه ضوء خافت. ظلام المكان وصمت الحاضرين، إلا من همس اشبه بترتيل صلاة، جعلني أشعر وكأنني في مكان لا يخلو من قدسية. حشرت نفسي حتى وصلت إلى مكان مناسب، صوّبت نظري تجاه الضّوء وإذا بي أجد قبالتي السيدة التي تحتضن، بلا اكتراث، حيوان القاقم.

جلت ببصري في ضوء الصالة الخافت، بعد أن اعتادته عيناي، فلم يكن هناك اي شيء سوى تلك السيدة التي ما زالت تحتفظ بشبابها، مع أن عمرها قد ناهز الخمسة قرون. اذن فها هو دافنشي، كل دافنشي الذي في كروكوف، منفردًا بصالة لوحده، يقف قبالتي في وجه تلك السيدة اللا مبالية وحيوانها القلق. 

قلتُ ان عمر هذه السيدة ناهز الخمسة قرون، نعم، فقد رسمها دا فنشي أثناء إقامته في ميلانو ما بين عامي ١٤٨٨ و ١٤٩٠. اذن فقد تعرف هذا العبقري الفلورنسي على تلك السيدة في مدينة ميلانو، ولكن، ما الذي أتى به إلى ميلانو، ومن هي تلك السيدة؟ كان من بين الأسباب التي دفعت بدا فنشي إلى ميلانو هو رغبته في إيجاد ممول لتجاربه وابتكاراته التجديدية. وكان بالفعل قد قدّم نفسه، برسالة أرسلها إلى دوق ميلانو لودوڤيكو سفورتسا، على أنه “مهندس عسكري”، وما كانت تخفى عليه تطلعات الدوق العسكرية واهتمامه بالآليات الحربية. على أن من المؤرخين من يعزو سبب تلك الإقامة لدوافع سياسية ولعبة مصالح كان يمسك بخيوطها سيد فلورنس وحاكمها – آنذاك – لورنتسو العظيم (لورينزو دي ميديچي) من سلالة ميديچي التي حكمت مدينة فلورنس وبعض مدن اقليم توسكانا. وقد وُصِف لورينتسو العظيم، في عصره، بأنه بيضة القبان، لأنه نجح في حفظ التوازن السياسي في عموم ايطاليا، وجَنّب الممالك الايطالية – يومئذٍ – صراعات دامية. وبغض النظر عن عدالته أو ظلمه كحاكم، فقد كان لورينتسو سياسيا بارعا وأديبا وشاعرا ومحبًا للفن بجميع أنواعه، وقد أسهم بنحو فاعل في انطلاق عصر النهضة الايطالي. ومن بين الأساليب السياسية التي اتبعها من اجل خلق التوازن واحياء السلام (وكذلك من اجل إدامة سلطانه) تمثلت بإرسال بعض عظماء الفنانين الفلورنسيين إلى الممالك الأخرى. فقد أرسل ميكيلانجلو إلى الفاتيكان في روما، رغبة منه، ولا شك، في تعزيز العلاقة مع البابا. وقد قام ميكيلانجلو بإنجاز بعض الاعمال الفنية التي تعدّ اليوم من أعظم أعماله، مثل الرسومات التي أنجزها في سقف كنيسة سيستينا، والتي استغرقت اربعة أعوام (ما بين ١٥٠٨ و ١٥١٢)، وغطت ما يزيد عن خمسة آلاف متر مربع. في حين أرسل دا فينشي، كما أسلفنا، إلى دوق ميلانو. 

أثناء إقامته في ميلانو تعرف دا فينشي إلى چيچيليا گالّيراني، وكانت فتاة في مقتبل العمل، ولكن كان لها شأن كبير في قصر الأسرة الحاكمة . ومع أن أسرة گالّيراني لم تكن من سلالة نبيلة او ذات حسب يعتد به، إلا أنها كانت تتمتع بقدر من الثراء، فضلًا عن قربها من بلاط عائلة سفورتسا الحاكمة. وقد عمل والد چيچيليا سفيرا لميلانو في عدّة ممالك إيطالية. وكانت چيچيليا تتمتع بجمال مُلفت، وقد وصفها سفير مدينة فيرّارا في إحدى رسائله على أنها “جميلة كزهرة تفتحتْ لتوها”. ومع بساطتها وتواضعها فقد كانت شديدة الأناقة، دقيقة في اختيار ثيابها واكسسواراتها وتسريحة شعرها. وقد تلقّت تعليمًا جيدًا بفضل أمّها المتعلّمة، فكان لها حظ وافر من الثقافة والمعرفة. أُعجب بها الدوق لودوڤيكو المورو، سيد ميلانو وحاكمها، وسرعان ما أصبحت عشيقته، وهي ما زالت ابنة الخمسة عشر عاما أو دون ذلك، وأقامت في القصر لبضع سنين. 

وكانت تربط چيچيليا علاقة وطيدة ببعض الأدباء والفنانين الذين يرتادون بلاط سفورتسا، مما عمّق في نفسها حب الفن بجميع أصنافه، والأدب بنحو خاص، حتى أصبحت هي نفسها تكتب الشعر، ولكن، للأسف الشديد، لم يصلنا اليوم شيئًا مما كتبته.

وبعد زواج الدوق لودوڤيكو المورو من الدوقة بياتريچه دي أيسته، من سلالة أيسته التي كانت تحكم مدينة فيرّارا، انقلبت الأمور على چيچيليا والدوق، بالذات بعد أن اكتشفتْ الزوجة تلك العلاقة. وقد كتب سفير فيرّارا في ميلانو إلى سيده دوق فيرّارا رسالة جاء في نصّها: “يقال أن السبب وراء سوء حالة السيد لودوڤيكو الصحية هو الإسراف في الجماع مع عشيقته الصغيرة التي اتخذ لها مقامًا عنده في القصر”. أُجبر الدوق لودوڤيكو، إثر ذلك، على إبعاد چيچيليا عن القصر، سوى أنها خرجت وبين ذراعيها الطفل الصغير چيزره، الابن غير الشرعي للدوق. لذلك فقد منحها عشيقها قصرًا وأملاكًا لتنعم بالعيش الرغيد، بل وجعلتْ چيچيليا من قصرها صالونًا تستقبل فيه المثقفين والفنانين، من بينهم دا فينشي أيضًا، وكانتْ وتدور في تلك اللقاءات حوارات ثقافية وفلسفية. ولم يتوقف عشيقها الدوق عند ذلك، بل هيّأ لها عريسًا من حاشيته، فتزوجتْ من رجل يدعى لودوڤيكو كارميناتي بيرگاميني.

وكان الدوق لودوڤيكو المورو قد حباها بالعناية والاهتمام في أولى سنين علاقتهما الغرامية، ومن علامات اهتمامه الشديد بها أن طلب من دا فنشي، والذي يعدُّ – حينها – من أشهر رسامين العصر، أن يخلدها في تلك اللوحة البديعة، ولم يكن لها من العمر حينها أكثر من ستة عشر عامًا. وكعادته في تلميحاته الذكية فقد وضع دا فنشي إشارات ترمز إلى حضور الدوق في اللوحة: فوجود حيوان القاقم، في الحقيقة، ليس اعتباطيًا. هذا الحيوان الصغير كان رمزًا لــــــ ” نظام فرسان القاقم”، وهو نظام فرساني تأسس في شمال فرنسا عام 1381، ودام حتى القرن السابع عشر. وكان ملك نابولي – أنذاك – فيرديناندو الأول دي أراغونا قد أحيا هذا النظام الفرساني في ايطاليا وجمع حوله مجموعة من النبلاء والدوقات، ومن بينهم دوق ميلانو، حليفه الوطيد، والذي منحه لقب فارس نظام القاقم. وقد اتُّخذ القاقم شعارًا للنظام لأنه، حسب الأسطورة المنتشرة آنذاك، حيوان نبيل وأنيق، وحين يطارده الصياد فإنه يفضل منح نفسه والحفاظ على نظافة ونقاء فروته البيضاء بدلًا من اتلافها بالدخول في جحره والنجاة بحياته. وكان دا فنشي نفسه قد وصف القاقم بهذا الوصف في كتابه عن الحيوانات. كان القاقم إذًا رمزًا للنقاء والطهر. والحقيقة فإن هذا الحيوان صعب المراس ولا يسهل تدجينه، فضلًا عن احتضانه من سيدة رقيقة مثل چيچيليا. لذا فإن بعض المختصين لمّح إلى أن الحيوان الذي اعتمده دا فنشي في الرسم كان في الحقيقة ابن مقرض، حيوان أليف ويسهل تدجينه، وهو يشبه إلى حد كبير حيوان القاقم. ولكن يبدو أن دا فنشي العبقري قد غير في شكل ابن مقرض وحوله إلى قاقم.

وقد كانت هناك العديد من الآراء حول هويّة السيدة التي رسمها دا فنشي، أكثرها شهرة هي السيدة الجميلة فيرونيره، إذ لا يزال مكتوبًا على الجانب العلوي الأيسر من اللوحة “فيرونيره الجميلة، ليوناردو دا فنشي” سوى أن هذه العبارة، كما اكتشف المختصون، كانت قد أضيفتْ بعد قرون من رسم اللوحة، ولا بد أن من أضافها پولندي، إذ دوّن اسم ليوناردو دون حرف (O) ودافنشي بحرف (W) بدلًا من حرف (V). ويستخدم حرف (W) في اللغة الپولندية لكتابة حرف (V). ذلك فضلًا عن وجود لوحة أخرى لدا فنشي هي لوحة “بورتريه سيدة” وقد اشتهرت بعنوان ” فيرونيره الجميلة”.

وتزخر اللوحة بتفاصيل دقيقة قد نحتاج لدراستها مجالًا أوسع، منها الوشاح الشفاف الذي يحيط برأسها وينزل فيُشد تحت الذقن، كما كانت تجري العادة في ذلك الوقت. وكذلك الشريط الأسود الظاهر فوق الجبين، وقد طوق رأسها بالكامل، وكانت الغاية منه تثبيت الوشاح على الرأس، فصلًا عن الزينة. ولكن من أهمّ تلك التفاصيل ما يحيل إلى اهتمام دا فنشي بعلم التشريح. نعم، فقد كان الرسام العظيم شديد الاهتمام بهذا العلم، وعمل على دراسة جسم الإنسان ولديه العديد من التخطيطات حول ذلك، وكان اهتمامه قد تولد من رغبته في الوصول بالرسم إلى ما يقارب الحقيقة. ومن يدقق النظر في لوحة “السيدة وحيوان القاقم” فإنه لا بد سينتبه لتفصيل صغير ومهم، ألا وهو يد السيدة فوق الحيوان. تلك اليد، في الحقيقة، أقرب ما تكون إلى يد رجل ناعمة (احتمال كبير أنه كان يدرس جثث الرجال فقط)، أو ربما يد جثّة هامدة. فيها نتوءات تثير الاستغراب والدهشة ولا تتناسب ورقة الوجه أو باقي التفاصيل اللطيفة في اللوحة. لا شك أن دا فنشي قد حاول جهده في العمل على اليد لتقريبها إلى الحقيقة. ومن التفاصيل المهمة الأخرى هو نصف استدارة السيدة في اللوحة، ولم يكن أحد من قبل قد أنجز لوحة بهذه الطريقة، حسب المختصين، فقد كانت البورتيريهات بالعادة أمامية. وهذا التفصيل، في الحقيقة، يثير سؤالًا محيرًا: إلى من كانت تنظر السيدة، بينما كان دا فينشي يخلِّدها؟

وقد تعرضت اللوحة لبعض الأضرار في جانبها الأيسر (ثمة كسر صغير) فضلًا عن عمليات الترميم التي أجريت عليها، منها تغيير خلفية اللوحة. ويغلب الظن أن لون الخلفية كان رماديًا مائلًا للزرقة. ويقال إن الرسام الفرنسي الشهير أوجين ديلاكروا هو من قام بهذا الترميم.

بقي لنا الآن الوقوف عند الرحلة الطويلة التي قطعتها السيدة وقاقمها من ايطاليا حتى مدينة كراكوف. يقال إن النبيلات في پولندا، في القرن الثامن عشر، كنّ يتسابقن في جمع التحف الفنية واللوحات الشهيرة، وكنّ يتفاخرْنَ بما جمعن من أعمال المشاهير. وكانت بين تلك النبيلات الأميرة ايزابيلا تشارتوريسكا (1746 – 1835) وكانتْ كاتبة ومحبّة للفن، وهي المؤسِّسة لأول متحف في تاريخ پولندا (متحف تشارتوريسكا) في كراكوف. وحين أعلن أحد أبناء إخوتها عن رغبته في السفر إلى ايطاليا، طلبتْ منه الأميرة أن يجلب لها إحدى لوحات دا فنشي، قائلة له إن ما ينقص مجموعتها من اللوحات والتحفيات هو عمل للفنان الايطالي العظيم. وبالفعل فقد اشترى لها ابن أخيها لوحة “السيدة وحيوان القاقم” وجلبها من ايطاليا إلى كراكوف. وقد أقدم النازيون على سرقة اللوحة، كما كل مجموعة التحفيات الفنية العائدة لعائلة تشارتوريسكا، أبان الحرب العالمية الثانية، ولكن أعيدتْ المجموعة إلى أصحابها الأصليين وأودعت الأعمال في متحف العائلة.

وقام الأمير آدم كارول تشارتوريسكا، قبل عامين، ببيع مجموعة الأعمال الفنية التي جمعتها جدّته إيزابيلا إلى الدولة البولندية بسعر رمزي زهيد، لم يتجاوز المئة مليون يورو، في حين يقدّر ثمن لوحة دا فنشي وحدها بثلاثمئة وخمسين مليون يورو.

 

*****

خاص بأوكسجين


قاص ومترجم من العراق مقيم في إيطاليا حيث يُدرس الأدب المقارن. ترجم العديد من الروايات من وإلى الإيطالية.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: