نهاري
لشهر أو أكثر والسماء غائبة تماماً، وحين يتذكرها فجأة ينظر من خلف زجاج سيارته إلى أعلى فلا يطالعه سوى الغبار، وليخلص على مدى النهارات الأخيرة المتعاقبة إلى أن المشمس مساو تماماً للظليل، وكلاهما حارقين، وأن الغبار ليس إلا محاولات مستميتة من السماء للتغطية على هذه الفضيحة المناخية – الوجودية.
طبيعي أن يقول إن مزاجه مغبر.. أو تافه – التوصيف الذي يكثر من استخدامه – مزاج لا يقوى على أن يكون متقلباً، مضيفاً بأنه من الطبيعي أن يكون كذلك، متسائلاً: وهل هناك أتفه مما أنا فيه؟ “اتحدر من وطن العصبيات والطوائف والفرد الصمد وأعرق الحضارات التي حققت نجاحات منقطعة النظير في الإبقاء على الفامبير والمومياءات والنذور بعراقة منقطعة النظير، وقد مرّت علي عشرون سنة وأنا أعيش في قاعة ترانزيت وأقول في كل يوم يا لها من رفاهية، ترانزيت الرفاه والبنين، ترانزيت العبور الوشيك الذي لم يظهر حتى تاريخه إلى أين؟
ليلي
الوقت الذي يعيش أو يُبعث فيه يومياً، إنه الليل القادر على إخفاء السماء ودفن الغبار في عتمته، لا مشمس ولا ظليل، والأمر لا يتعدى أعمدة الإنارة، والزوايا المعتمة في البارات والحانات متّبعاً “القلب صياد وحيد” *وعليه تكون تحركاته الليلة لا تقبل أصدقاء أو رفقاء، ليكون قلبه بحق صياداً مرهفاً رقيقاً متوقداً، يخيب ويصيب، متوثباً، صبوراً، يرمي شباكه وينتظر، يطلق سهامه تصيب وتخطئ، ودائماً يرضى بقسمته. مرات يخرج برفقة امرأة، وفي أخرى يعود صفر اليدين، وحيداً يقود سيارته يدندن أغان راسخة في المكان تكره كل ما هو عابر و”ترانزيتي”.
ولتبيان كيف يكون في كلا الحالتين، فقد قام – إبان هذه الموجة الغبارية الحارقة – أحد جيرانه المؤمنين في الحي الذي يقطنه، بزرع لوحة صغيرة عند الالتفاف U-Turn – الذي لابد منه ليصل شقته – كُتب عليها “لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين” وهكذا صار ليله ينتهي بترديده “سبحانك” حين يعود غانماً متقداً رهيفاً رفقة امرأة، وليردد “إني كنت من الظالمين”كلما عاد صفر اليدين.
آمين
________________
* رواية كارسون مكولرز (1917 – 1967)