كلَّ ما أودعته فيَّ من جهات
العدد 156 | 16 تموز 2014
زياد عبدالله


كل شيء مضى على العكس مما أودعتِه فيّ من جهات. بدت الجوارح آخر المحاولات العاطفية، والاختلاجات تخبطاً بك أنت وحدكِ، بعد منتصف الليل بكثير، بعد انقطاعك عن إلحاقي بكل ما يراودك من حنين وشفقة وأمل، وقد كانوا جميعاً يجتمعون في دمكِ الذي يريد لك الأرق، كما لو أنه آخر ما تتوصلين إليه في كل ليلة.

عند المنعطفات، كما تلك التي أنت فيها، كما كل أولئك الذين من حولك أيضاً، المنعطفات التي ليست إلا بحثاً متصلاً عن الاستقامة، ومواصلة ما ينقطع عندما أدخن أكثر مما تتسع له رئتي، ويصيبني الغم، ويُلحق بي النقاء إصاباتٍ محققة في الرؤية، في المسافة التي تفصلني عن من هو بالمتناول، وما من حجرٍ إلا ويصيبه.

أنت يا من تتقنين التشكي من المواصلات، وسرعة القطار في أن يضعك بين ذراعي في عناق مهلك، وأنت تريديني ملوحاً من بعيد بينما تفارقين، والقطار يترك السكة لوحشتها الداكنة وحديدها الصلد.

الثالثة وإحدى وثلاثين دقيقة بعد منتصف الليل، ولا معنى لهذه الدقة، ولا معنى للاستهتار بالمواعيد التي لا تجر إلا دقةً لا معنى لها أيضاً، فاتت المواعيد، وخرج المهرج من بوابات الطورائ، وقالوا عنه إنه ناجٍ وهو مشغولٌ عن النجاة بالضحك، وقد كان كل ما أتوق له أن أكون مهرجاً، وألا أؤخذ على محمل الجد، أن أرمى في طواحين الضحك، وأحشر في أكياس الطحين، أبيض مثله، موزعاً على الأرغفة وهي تتسلق أفواه الجياع الضاحكين.

أحبطت محاولاتي الأخيرة بالعبور نحوك، وقد كانت كل الأميال على العكس  مما نعيشه يومياً، كما المعابر والحواجز، كما أخطاء الولادة والمخاضات، كما الكذب الذي يجلدنا ليل نهار، كما العنفوان على عاتق السفلة، كنت أنت تماماً، أنت والجهات ضد كل ما أودعته فيّ.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.