كان يفترض به أن يسبق حديثه بقول شيء مثل “لا أعرف إلا أن أكذب، فأنا في حالة هجوم استباقي يستدعي مني شحذ كل مواهبي في التلفيق والادعاء”.
طبعاً هو لم يقل ذلك، وأنا أيضاً وصلت إلى تلك الخلاصة عند منتصف حديثه المستفيض، لكن مع اكتشافي ذلك كان قد أجهز على سيجارته الرابعة، من دون أن أعرف كيف تمكنت من عدّها، وقد جعلها سلسلة متصلة من التدخين كما لو أنها سيجارة واحدة لا تنطفئ.
بدا لي من هؤلاء الذين توصلوا إلى نجاح مستحق في ظل رداءة متسيدة، من دون أي نجاح يذكر على الصعيد النفسي ورداءته الشخصية، كأن يتخلص من عقد كثيرة لها أن تأخذه دائماً إلى القاع، فهو إن صار رائد فضاء فإنه سيتوق لا محالة إلى المجارير، وانعدام الجاذبية سيشده أكثر نجو المزابل ومكبات النفايات، ولن ينعم أبداً بالسباحة في الفضاء، وتذوق طعم حرية الخروج عن نطاق الأرض التي لا تعرف إلا الدوران.. فمن إحدى فضائله التشويش على الحضيض الذي لا يفارقه في النهاية.
وهو لا محالة ينتمي إلى فصيلة من البشر الذين كلما كنت عفوياً معهم كلما ازدادوا هلعاً، وتمترسوا أكثر خلف عقدهم وأزماتهم، بما يصيّر العفوية عدواً قاتلاً لمن هم مثله، وهكذا فإنه ومن مثله في حالة هجوم استباقي دائماً ضد من يتعامل معهم بعفوية، يحارون كيف سيجابهونها ولم يعرفوا مذاقها يوماً.
لم يمض إلى سيجارة خامسة لكنه ازداد تمترساً خلف نفسه، وعدّل من جلوسه كما لو أنه ينتقل إلى مستوى آخر من الحديث، لا يمكنه التعامل معه بما كان عليه جسده منذ ربع دقيقة. بدا لي في هذه اللحظة بالذات مشابهاً تماماً لشخصيات كثيرة كتبها للتلفزيون، لم أنجح في تمييز واحدة من أخرى، فقد مرّت جميعاً في رأسي ولم تحرك عاطفة أو حنين، كذلك رواياته التي لم أنجح في إكمال أكثر من خمسين صفحة منها، وقد كانت فقاعات أكدّ حلفاء الهراء أنها قادمة من صابون إبداعي أو مسحوق غسيل لن يبقي بقعة إلا ويزيلها، ولعل هذه الروايات لم تفعل إلا إزالة الناصع والمضيء بكل الرداءة المطلوبة لاكتشاف عمق الغسيل كما في أي إعلان عن “أومو” أو “برسيل”.
إنه عينة خارجة للتو من الغسالة لمن ينبحون ليل نهار بأمجادهم الشخصية، التي لا تدفع لا لهجوم ولا دفاع، استباقي أو لاحق أو ما بعد…إلخ