تقول كنت على شاطئ البحر. تسبح في بحر هائج مائج، تضربك الأمواج العالية ضرباً مبرحاً، لا بل إن بعضها حرّك أسنانك في فمك من دون أن يخلّ بترتيبها ويجعل الأنياب أضراس عقل، وحين قلبتك إحدى الأمواج مرتين أو ثلاث وأنت في جوفها ما انقلب الفك العلوي سفلياً، إلا أن ما حدث في الواقع كان ظهورك بمظهر رجل بالغ بأسنان لبنية، أقل بكثير من عمرك الحقيقي وبالتالي إحالتك إلى الطفولة، وأنت أصلاً لا توحي بشراسة أو نقمة، هادئ تماماً من شدة ترويضك لما يعتمل في أعماقك وهو أشد صخباً وهياجاً من تلك الأمواج، شيء أقرب للأعاصير والزوابع وغير ذلك مما تعمل عليه يومياً للحدّ من كارثيته.
من المتوقع دائماً حدوث خلل في هذا السياق، فشل ما يبدأ محدوداً يمكن السيطرة عليه، فتستلم له فيصبح عارماً ساحقاً ماحقاً، وهذا ما يحدث غالباً من شدة حنينك للعدمية، إذ تكفي ذرة واحدة منها تتسرب من دواخلك لكي تمتلئ بها تماماً، وكل ما يشهده هذا العالم يدفع للإيمان والتسليم بها، وشتى أنواع الإيمان أمست عدمية أيضاً: الدينية والعقائدية أي كل ما هو أيدلوجيا مصمتة أمسى عدمياً، فُرِّغ من محتواه ومعانيه ليرفد مجرى العدم المتدافع. هناك مصلحة عامة بالعدم، اتجاه يتسيد الكون لئلا تقدم على شيء له جدوى، كما هو الإيهام بأنك مؤثر حين تحصد مئات اللايكات على جثة أحدهم، أو أن تندد بشدة بما ستعتاده بعد أشهر، ثم تأتي سذاجة اليقين وعسف الإيمان وضرورات التشاوف بتمردك الذي لا يتهدد أحداً سواك.
أكد لي أنه اجتاز تلك العدمية اللعينة، وحدثني عن “كابوس التاريخ” على رأي ماركس، وسعيه لتحويله إلى طريقة للحلم بما يدفع للاستيقاظ، وكنت أتساءل وأليس الكابوس يدفع للاستيقاظ بأكثر من الحلم؟ وهو بدوره أكد لي بأنه استيقظ إلا أنه وجد نفسه ما زال يحلم! ومضى إلى القدرة التاريخية الفذة التي نتمتع بها في إلغاء التاريخ، إلى أن وصل إلى العدم من جديد، وأنا كنت أفكّر بأسنانه بما صنعته الأمواج العاتية بها وقد أمست أسناناً لبنية تعض على العدم، وربما كما وصف هذه البلاد والأصقاع بأنها: عدم بأسنان لبنية.
لنضحك!
قلت له
السخرية والتندر يجعلان العدم أدرد، ويقلمان أظافر الإيمان.