تقدّم رواية “رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين” للكاتب الروسي ألكسندر تشايانوف (الصادرة أخيراً عن محترف أوكسجين للنشر ضمن سلسلة “أوكلاسيك” وقد ترجمها عن الروسية الروائي والمترجم أحمد م الرحبي) مشاهد لا يمكن وصفها إلا بالمدهشة والحيوية للمناظر الطبيعية المحيطة بمدينة موسكو التي شيّدها الكاتب وعالم الاقتصاد ألكسندر فاسيليفيتش تشايانوف (1888-1937)، مقدّماً مجتمعاً لم تعد فيه المدن أماكن للحياة، والجميع يعيش في تجمع تقاليد الماضي بالوسائل التقنية الحديثة، من وسائل الراحة والتنقل السريع. أليس هذا حلم غالبية سكان المدن اليوم؟
تنسف هذه الرواية المدنَ الكبيرة في شكلها الصناعي الحالي، وتراهن على المبادرات الابداعية الشخصية، ونشر الثقافة والفن في كل مكان، بينما تطفو رغبات الطبيعة العميقة إلى السطح، ومعها التفكير، في المقام الأول، في موسكو فاضلة، هي جزء من خيط اليوتوبيا الكبرى التي تخلّلت العديد من الأعمال الأدبية في بدايات القرن العشرين. لكن هذه الآمال سرعان ما تتلاشى شيئاً فشيئاً في رحلة خيالية ساحرة ومغامرة تحمل في طيّاتها متناقضات وأسئلة وجودية جريئة، كدعوة متجدّدة للتأمل في عالمنا اليوم.
في مقدمة الكتاب التي جاءت بعنوان “تشايانوف، علَم على قبر مجهول” يوضح المترجم الرحبي:
ألكسندر فاسيليفيتش تشايانوف (1888-1937)، اقتصادي روسي سوفياتي. مؤلفاتُه التي تربو على أربعين كتاباً توزّعت بين علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاجتماعية والخيال العلميّ والطوباوي. اهتمّ بالفلاحة من بابها العلميّ، فألّفَ فيها دراساتٍ شملتْ تخصّصاتها المختلفة، كما يُعدّ مؤسِّساً في هذا المجال ومستنبِطاً لنظرياتٍ ومصطلحات من قَبيلِ نظريةِ “العمل الجماعي” و”التعاونيات الزراعية”، ومصطلحِ “الاقتصاد الأخلاقيّ” و”الأمنِ الغذائيّ” إلى جانبِ وضعِه دراساتٍ مهمّة حولَ الزراعة في بلجيكا وإيطاليا وروسيا وكازاخستان. وغيرَ اشتغالِه الأساسيِّ في العلومِ الزراعيَّة، كانت لتشايانوف جولاتٌ في الفنّ والأدب والدراما.
جرّته أفكارُه إلى صداماتٍ عنيفة ومتكرِّرة مع السلطةِ السوفياتية، فاتُّهِم العام 1926 بالبرجوازية وبشروحاته المناهضة لأفكارِ الماركسية حول اقتصاد الفلاحين. ومع إحلالِ التعاونيّات الزراعية السوفياتية في نهاية العشرينيات من القرن العشرين، نمتْ موجةٌ من الانتقادات الإيديولوجيّة والسياسيّة ضد تشايانوف. فأصبح سجّله لدى السلطة ممهوراً باتّهامين خطيرين: تهمة تحت مُسمّى “الشعبويّة الجديدة”، وتهمةُ الدفاع عن مصالح الفلاحين الأثرياء، والترويجِ للنظريات الزراعية البرجوازية. لاحقاً، في مؤتمر الماركسيين الزراعيين الذي عُقدَ بين 20 و29 سبتمبر 1929 تلقَّى تشايانوف عاصفةً من النقدِ والاتّهامات واستُنبِطت ضدَّه نظريةُ “تشايانوفشينا” التي تصنّفُ أعمالَه في خانة العمالة للإمبريالية؛ بل إنَّ ستالين تحدَّث في المؤتمر، وهاجمَ ما سماه “النظريات المناهضة للعلم التي يقودُها اقتصاديون سوفيات من أمثال تشايانوف…” فأيُّ تهمة أشدُّ وطأة من تهمةٍ يسوقها ستالين؟
في يوليو 1930 أُلقيَ القبضُ على تشايانوف وعدد من الاقتصاديين البارزين في ما سُمّي “مجموعة لكوندراتيف – شايانوف” التي كانت جزءاً من حزبٍ يُنكِرُ بعضُ المؤرخين وجودَه ويعتبرونه ملفّقاً من قِبل السلطة لمحاربةِ خصومِها يُسمّى “حزب العمّال الفلاحين”، اتُّهمَ الموقوفون بموجبه بتنظيم انتفاضات للفلاحين.
ثم يأتي العام 1932 ليشهدَ إدانةَ تشايانوف في تلكَ القضيّة، ويحكمَ عليه بالسجن خمس سنوات، قضى أربعاً منها في السجون، واستبدل العام الأخير بالنفي في “ألما آتا” (كازاخستان)، حيث عمل في معهد أبحاث الاقتصادِ الزراعي. وفي العام 1935 مُدِّد منفاه ثلاثَ سنوات أخرى، ثم اعتُقل في مارس 1937 مرة أخرى وأخيرة، حيث أُدرج اسمُه في لائحة الإعدام، وأعدِم في اليوم نفسه رمياً بالرصاص.
كتبَ تشايانوف بأسماءٍ مستعارةٍ منها “إيفان كريمنيف” (وهي كنية بطل هذه الرواية)، لكنَّ الاسمَ افتُضح، فلجأ إلى اسمٍ آخر “عالم النباتات X” الذي كان سبباً في حمايةِ بعضِ أعمال الكاتب وذلك حين عمَدَ الرقيبُ السوفياتيّ إلى حظر مؤلفاته، فمُنعَ توزيعُها وسُحبَ وأُتلف ما كان منها في المكتبات. وقد أصدر تشايانوف خمسَ قصص رومانسية ما بين أعوام 1918 و1928 بتوقيعه الأخير.
بالنظر إلى المسار الفكري للعالِم الروسي ألكسندر تشايانوف، وعملٍ مركزيّ للكاتب البريطاني جورج أورويل (1903–1950) لا يسع المرء إلا أن يلاحظَ قواسمَ مشتركةً بين ما كتَبَه الرجلان. الكلام هنا عن رواية جوروج أورويل “1984”. الشائع بين النقّاد الروس أن جورج أورويل قد استوحاها من كاتبٍ روسيّ آخر وهو يفغيني زامياتين عبرَ روايته “نحن”، أمّا مع تشايانوف وأورويل فنجدُ أن المُرتَكَز الرئيسي لعمليهما الطوباويين، واحدٌ. يتمثَّل هذا المُرتَكز في البحثِ الدائبِ عند كلا الكاتبين عن بدائلَ للاستبداد الذي يعتري الديمومة البشرية ويتغلغل فيها، وذلك على الرَّغم منَ الاختلافِ الظاهريّ بينهما، حيث العالَمُ في رواية “1984” قاتمٌ، لا مخرجَ فيه من المأزقِ الذي ينصبُه الطغيانُ السلطويّ للبطل، بينما تنحو رواية “رحلةُ أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين” إلى طمسِ الحدودِ بين القرية والمدينة، المركزِ والريف، مع تكييفِ التطوّرِ التقنيّ الخارق لخدمةِ الإنسان ورفعِ مستواه الثقافي… أي ما يمثلُ رؤيةَ تشايانوف لمستقبلِ الاتّحاد السوفيتي بعد الإطاحةِ بنظامه. زدْ عليه هذه المصادفةَ العجيبةَ المتمثّلةَ في تاريخ 1984 وهو العام الذي يستيقظُ فيه بطلُ الرحلة (المكتوبة في العام 1920) ويتكرَّر مرتين: الأولى ضمن عنوانٍ لأحدِ الفصول، والثانيةُ ضمن سياق الرواية، في حين يختارُه أورويل كعنوان لروايته الشهيرة.
يشير الباحثون إلى تفسيراتٍ بسيطة لاختيارِ هذا التاريخ واشتراكِ الكاتبين به. في ما يخصّ تشايانوف، فإن الحيّز الزمنيّ الذي وضعَه لعمله (وربما لاستشرافه مستقبل بلاده!) يعتمد على انقلابٍ سيطيحُ بالسلطةِ البلشفية العام 1934، ومن هذا المنطلق، يقفز ببطله خمسين سنة، أي إلى االعام 1984، ليخبرَنا من هناك عن التطوّر الذي بلغتْه بلادُه. أمّا بالنسبة لجورج أورويل فالمسألةُ -وفقاً لافتراض الباحثين- أكثرُ بساطةً بكثير، فالكاتبُ الذي أنجزَ روايتَه عام 1948 اعتمدَ تاريخاً كعنوانٍ لروايته، وحيّزاً زمنيّاً لأحداثها، انطلاقاً من تحريكِ الرقمين، الأحادي والعشري، في سنة كتابتها، وبه صاغ عنوان روايته “1984”، معزِّزين رأيهم بأنّ أورويل لم يطّلع على أعمال تشايانوف التي تُرجِمت إلى الإنجليزية والفرنسية بعدَ وفاة الكاتب الإنجليزي.
أخيراً، يدلُّنا عنوانُ الفصلِ الأخير من الرحلة، إلى أنَّ تشايانوف كانَ يخطِّط لكتابةِ جزء/ أجزاء أخرى لكتابه، وأنْ يكملَ معمارَ مدينتِه الفاضلة، المعمارَ الذي وجدناه مشغولاً بسردٍ متقن، ووصفٍ مرهَف، مع طرحٍ علميٍّ عميق، يصادفُنا في هذا الفصلِ أو ذاك من فصولِ الرحلة، كلُّ هذا في صفحاتٍ قليلة محبوكةٍ بثقافةٍ عالية، وحسٍّ أدبيٍّ رفيع، وفكرٍ اقتصاديٍّ يصوغ من النظريّةِ العلميّة، أحلاماً وفنّاً. فهل أكملَ تشايانوف رحلته؟ أين الجزء/الأجزاء التالية إذاً؟ هل اختفت، ضاعت، أُعدِمَت مع صاحبها؟ لا أحدَ يعرف، تماماً كما لا يعرفُ أحدٌ المكانَ الذي دُفِنَ فيه تشايانوف…
بمقدمة وأربعة عشر فصلاً في 96 صفحة، جاءت رواية “رحلة أخي أليكسي في يوتوبيا الفلاحين”، من مرتكز البحث عن بدائل للاستبداد الذي يعتري الديمومة البشرية، بل يرسم مستقبلاً مغايراً للاتحاد السوفياتي آنذاك بعد الإطاحة بنظامه “أدبياً”. وقد كانت هذه الرواية، على نحوٍ ما، سبباً في إعدامِ صاحبها.