جسد الكلمات الشفيف
العدد 288 | 6-6-2024
قصي اللبدي


صباح أحد

 

تاركاً كل شيء، ومستغنياً عنه،

جاء،

يجرّ شراشيبَ فضية خلفه.

.

طبعات يديه وآثار خطوته في الهواء،

خمائر ضوء.

وليس له صورة في الأضابير.

.

من جهة الشرق، ملتمساً خطواتك

محتشداً بالبنفسج

مخترقاً عشرات التلاميذ في موقف الباص،

حيث المظلة والضحكات

.

تخطّى محل الخضار، ومبنى البريد القديم،

وأخفته في معطف الفرو أشجار سرو، ولكنه انسل من بينها..

قافزاً عالياً،

مثل مطلع أغنية أو بزوغ جسد

.

يا لهذا الصباح الذي زارني

تاركاً كل شيء،

وحط ّعلى مقعدي، زاهداً بالأبد…

2

زرتماني معاً،

أنت من عشرات الشقوق،

وعبر المسام،

وأما الصباح، فجاء من الباب

3

هل جاء منتحراً؟

لا يزال على حائطي لطخات دم منه

مثل مزاج من اللون، أو ضربات مبعثرة،

مرَّ، ملتفعاً بالبريق،

كأن لم يكن أحداً،

أو صباح أحد.

***

روح

ذرّة من غبارٍ،

تحطّ، على مهلها، حيث شاء لها

حظها.

غير مرئية، ولها خفة الظلّ.

.

يطردها نفَسٌ، أو صدى ضحكٍ

خارجاً

ويطيرُها، عالياً وبعيداً، مروري السريعِ بها.

.

لا ملامحَ. لا اسمَ، ولا وجهةٌ.

لا عناوينَ مكتوبةٌ بالرصاص على دفتر الجيبِ

لا ضوء في كوة الغيبِ.

.

أيتها الروح، لا خطةٌ لخطايَ.

أنا، أيضاً، انصهرت شفتاي، فقلت: أدندن في داخلي

مقطعاً..

مقطعين،

وأطوي الظهيرة منجرفاً نحو نسيانها.

***

الشمس تجهش بين الصخور

بخطى تعرف الدرب،

جئتِ

وبالخصلات التي التصقت بجبينك،

جئتِ

كأنك أعطيت من كل شيء.. وسميت باسمك،

ثم

بما تملأ الكأس، قبل النبيذ، مُلئتِ.

.

أراك،

فينبثق الوقت، مثل صدى خطوات،

مصاباً بداء التعاقب.

.

أصغي..

فتنزع عن حاسة السمع قشرتها، برؤوس الأصابع،

أغنية منكِ.

.

أغفو،

فتولد في حلمي زهرة ما،

وتكبرُ

ناسية أمها، الشمسَ، تجهش بين الصخور،

كمن فقدت خاتماً.

.

باحثاً عنك،

علمت نفسي التفرس في كل شيء

وراقبت يأسي يفك شرائط معقودة، ويقلب محتويات

الصناديق.

ينظر في علبة، ويعيد الغطاء.

.

ومن قبل.. لم يكن الليل ليلاً،

ولا ارتجفت كالهواء لأن يداً لامستها

الظلال.

ولم تكن الضحكات نشيد فم

لم تبح وردة، قبل، بالسر، لم تنفرج شفتاها.

.

وكنت أنا غائم اللون، أعمى، وملقى على الأرض.

والله..

لم يكن الله قد صار بعد إلاها.

***

لحن

ترسلين إلى داخلي نظرات

فضولية،

ثم تلقين شيئاً، حصاة أو اسماً

وتنتظرين الصدى

.

مرة،

من أصابعك الخمس، أفلتّ تفاحة..

فضحكنا معاً.

.

مرة، كان شلنا (هوى مسرعاً)

مرةً، كان علبة بيبسي (أصارحك الآن؟

كان الصدى المعدني مهيناً).

.

وأمس،

وأنت تمرين، حاجبة مصدر الضوء،

ألقيتِ لحناً حزيناً،

هوى مقطعاً مقطعاً.

***

جسد الكلمات الشفيف

ينظرون إليك،

طويلاً

طويلاً..

ولكنهم لا يرونك.

.

يلتقطون حفيف الغصون،

ووقع الخطى،

والصدى.. قادماً من بعيد،

ولكنهم يقطعون الطريق من الجانبين،

ولا يسمعون غناءك.

.

محنية الظهر، ساهمة، تربطين حذاءك قرب الرصيف

ولكنهم لا يرون سوى جسد الكلمات الشفيف

.

ولو أنهم بحثوا عنك، مستبسلين،

فلن يجدوك

ولو أطرقوا لك، مصغين، لن يسمعوا

***

الآمر الفظ

لا أراه..

فأي نسيج من العري

يلبس.

هل يتنفس كالكائن الحي..؟

يهمس:

  • دخن.

فأشعل سيجارتي صاغراً.

ويقول:

  • “مضى الوقت.

لم ينبعث جسد من غيابة أمس”.

ويرمقني ساخراً،

فتلف يدي، بأصابعها الخمس،

خاصرة الكأس.

.

يرسل إيماءة،

فيحوّم في داخلي ندمي كله، هابطا سلم القبو.

بعد دقائق أهوي،

ولا أتذكر صوتاً ولا صورة.

.

أيها الآمر الفظ..

أي صلاحية أُعطيت لك حتى تمر على وردة،

فتصير دخاناً

وتلمس أغنية ما، فتذوي؟

ومن أين جئت بهذي البلاغة

ترسل مفردة ما، فتعمى، اعترافاً بسلطانها،

سائر المفردات.

***

عبدالرضا

لا تمت فجأة، مثلما يفرغ البن أو ينفد التبغ.

جارك، عبدالرضا، جاء قبل ثلاثين عاماً،

إلى الصحراء

كما يفعل التائبون..

بنى جنة في صرافة كشمير

لكنه لم ينم في ظلال النعيم، ولم يجن تفاحة.

لم يكن سيء الظن بالآخرين.

.

دابة الأرض تأكل منسأة،

وهو يمسك أنفاسه، لابثاً قي العذاب المهين

 

كل ما فعلته السنون به، أظهرت فكّه

فبدا فرحاً..

وهو شخص حزين.

*****

خاص بأوكسجين


شاعر وصحافي من الأردن. من مؤلفاته: "ليكن لي اسمك"" 2011 و""فرد في العائلة"" .2014"