الأنف
العدد 288 | 6-6-2024
منى السويلم


تعرفت على أنفي منذ حوالي العام، بدأت القصة بيننا بسبب بثرة لاحظت وجودها وأنا أعمل عملي الروتيني في العناية بالبشرة. البثرة كانت لا تُرى بالعين المجردة، تحسستها بينما كنت أدهن مستحضراتي التجميلية، وحسبتها ستزول قريباً كما أتت وزالت كثير من صويحباتها قبلها.

كان أمراً معتاداً أن تقحم أمور مزعجة نفسها في حياتي، بعضها يتجسد على شكل بثرة، تكون عادة عميقة وغائرة ثم ما تلبث أن تبرز وتشرئب برأسها للوجود وتجود بما فيها من إفراز كريه، تجف بعد ذاك وتتلاشى وأنسى أمرها.

إلا هذه! فقد كانت عنيدة، متصلبة، متمسكة بموقفها المربك، إذ لم ترغب لا بالظهور علناً والإفصاح عن مكنونها ولا المغادرة بسلام. أصرَّت على البقاء، وأبت أن تبرح موقعها الاستراتيجي الذي اختارت.

لاحظت وأنا لست بقليلة الملاحظة وخاصة في ما يتعلق ببشرتي وجمالي الذي أوليه جل عنايتي واهتمامي في أحوالي كلها، الحسن منها والسيء. اتخذت وضعية المراقب، أما هي فأخذت تذهب بعيداً في غيها. بقيت متربعة هناك في أعلى برج أنفي الأشم.

عندما يأست من كونها مغادرة، استشرت طبيباً في أمرها، وهو الذي كان مندهشاً من ملاحظتي إياها واكتشافي لوجودها.

للأسف بعد الفحص والتمحيص عرفت وليتني لم أعرف، بأنها نوع من الورم لا يمكن معرفة فصيله إلا بخزعة تغترف منه بمغرفة الطبيب ثم تذهب للاختبار.

قدّر الله اللطيف أن يكون تورماً ليفياً حميداً، لكنه بحسب الطبيب قابل لتطوير حالته ومستواه المعيشي والاجتماعي والتحول للخبث والتغول إن أهمل.

تحدد لي موعد جراحي لإزالته بعد مشوار ليس بالهين، ولا القصير مع أطباء التجميل، تجرأ شجاع منهم أخيرا للتصدي للقضية وإزالة التليف من أنفي العزيز مع وعد منه أن يجمّله، وأن لا يسيء لمظهره. حُدد الموعد على مسافة شهور، أطالها الانتظار، ومددتها الحيرة والقلق من النتيجة.

ذا أنفي العزيز وليس أي شيء، هو المتصدر في وجهي، مخرج أنفاسي المرتبكة ومدخلها الوحيد، أنفي الشامخ رمز عزتي وكبريائي.

بت مهتمة به، أتفحصه وأدرس خصائصه، أدقق في مظهره، أصوّره ليل نهار عن يميني وعن شمالي ومن أمامي، أتأمله متمنية له السلامة، وأن ينجيه الله من عواقب مبضع الجراح ويخرجه لي غانماً.

لكن المقدّر على الأنف وجب أن تبكي لأجله العين. تمّت الجراحة التي أفنيت شهوري الأخيرة أستعد لها نفسياً وجسدياً آمله أن أتخطاها بأقل الخسائر. وبعد أسبوع من العمل الجراحي جاء وقت إزالة الضماد، بعد أن خفّت آلامي الرهيبة قليلاً، وتواضعت أورامي وتضاءلت، لكن القلق لم يفارقني بشأن شكل أنفي والحالة الصحية لأنفي الموقّر. بعد إزالة الضماد ونزع الجبيرة والحشوات القطنية المحشورة في مجرى تنفسي لم يبدُ الشكل كما أحلم، ولا يشبه في شيء ما أرغب بأن أرى، إلا أن الطبيب المناوب أثنى على حالتي، ونعتها بالممتازة، وأخبرني أن الشكل لا يعوّل عليه ولا يصح الحكم عليه، وهو لن يبدو بشكله الحقيقي إلا بعد زوال الاحتقان، وشفاء الجراح العميقة المطمورة تحت برج أنفي المستعار. أوضح لي وشرح بأن الجراحة ليست بالعادية ولا الهيّنة، وأنها ليست تجميلاً، بل هي عملية ترميم وإعادة تأهيل، وكشف لي أن الطبيب اكتشف أن أنفي كان متآكلا من الداخل، و أن تلك القامة لم تكن إلا وهماً، الورم في حقيقة الأمر يشبه جبلا من الجليد ذو قمة متواضعة وباطن عظيم.

وأخبرني فيما خبر أن الطبيب اضطر لزراعة عظم من متبرع كريم، و أفهمني أن طبيبي اجترح معجزة وأتى بما لا أدري من أمور وأنا بين يديه في غيبوبة المخدر.

لقد استغرقت العملية ساعات وألغى الطبيب كل مواعيده يوم ذاك لأنه أُستُهلِك فيها حتى هلك.

تخيلوا عمليه في هذا الهيكل المتواضع الصغير تستغرق ساعات. وللأسف tYk الطبيب المناوب كان يخدرني من جديد بتطمينات كاذبة حتى ألتقي بطبيبي في الزيارة القادمة.

رغم عدم رضاي عن مظهر أنفي سعدت جداً بالخبر عن المخبر، العملية ناجحة بزعمه، لكن ذاك كان إخطاراً كاذباً للأسف.

أنفي الذي استهلكه الورم يعاني الآن من تفسخ الجلد، الغرغرينا تعيث فيه فساداً على نحو خفي. بدأ على شكل احمرار ثم انتهى إلى ازرقاق مرعب ومنفر.

انقلب فرحي بالسلامة ترحاً، واجتاحني حزن عميق، بكيت وبكيت ثم بكيت من جديد لأجل الكذب والتطمينات ولأجل البشارة التي لم تكن غير وهم. تألمت من جديد و عانيت الأمرين. خابت آمالي، وأسفت على نفسي بسبب الحال المزري لأنفي الذي يؤثر على كلي.

صار لأنفي حياة مستقلة منذ لا أدري متى! ربما منذ ورم، وربما بعد الجراحة، وربما هو كذلك قبل ذاك، أصبح أنفي علماً مستقلاً، مشهّراً ومشهوراً جداً.

في الأماكن العامة اشتهر بسبب الضماد الذي عاد يغطيه وتحته ما تحته، أصبحت أينما سرت أتلقى التبريكات، وأنال الحمد لأن لي أنفاً مميزاً حصل على تجميل. كنت أنفي التهمة عن نفسي وأقول مدافعة أني لم أخضعه طوعاً، وأن ما يعانيه حالة اضطرارية وعلاجية، أشرح وأوضح. لكن بعد أن تعبت من التبريرات والشروحات يأست، تخليت عن موقف الدفاع، تنحيت، وتركت كل ذلك يسقط عليه وينزلق من فوقه كالمطر.

أما شهرته التي نالها بين أهلي ومعارفي فهي أشد سطوعاً وأقوى أثراً. صار موضوعا أثيراً، يحصل على الوصفات وتأتيه من حيث لا أدري الخلطات والدهانات، ويتفقده بالسؤال البعيد والقريب.

بات موضوعا مثاليا للوعظ الديني والاجتماعي والنفسي، وأخذ يتقلب بين الدورين وينتقل من التراجيديا إلى الكوميديا ببراعة يحسده عليها انتوني هوبكنز.

أضحى مستقلاً تماماً حتى أن الناس لم تعد تسألني عن أنفي بل تقول: “هاه ! ما آخر أخبار الأنف؟ كيف الأنف؟ ماذا عن الانف كيف هي حاله وما آخر التطورات معه؟”

صار أنفي يمشي ويجرني وراءه، بداية كنت أغضب وأنزعج. ما شاء الله الأنف! هاه؟ ماذا عني أنا؟ أنا من يحمل هذا الأنف ويعاني معه ومنه!

أصبحت أشعر بالتهميش واللامبالاة بجواره. سرق الأضواء، واستولى على كل الاهتمام. صار كينونة لها سمعتها، وموقفها المستقل، ولها حالها الذي يخصها وحدها.

ما زال أنفي عالقاً في وجهي في مكانه تماما كما كان. لكنه لم يعد يخصني ولا متعلق بي. صرت خائفة من أن تغار منه أجزاء أخرى وتتمرد علي وتنطلق في حياة لها تخصها، ويصبح هناك القلب، اليد، الأصبع وإلى آخره…

*****

خاص بأوكسجين


كاتبة من السعودية.

مساهمات أخرى للكاتب/ة: