أغنية عن كلبة
العدد 288 | 6-6-2024
سيرغي يسينِن | ترجمة: نوفل نيوف


اعتراف أزعر

(ملحمة صغيرة)

 

لا يُحسِن الغناءَ أيٌّ شاءْ

ولا مقدّرٌ لكلّ من أرادَ

أن يكونْ

تفاحةً ناضجة في جنّةِ الغُرباءْ.

 

ها أعظمُ اعترافْ

يُدلي بهِ أزعرْ.

 

عَمْداً أسيرُ أشعثَ الشعرِ

رأسي على كتفيَّ كالقنديلْ.

أريدُ أن أضيءَ في الظلامْ

عُريَ الخريفِ في جوارحِ الأنامْ.

 

يُعجبني رجمي بأحجارِ الشتائمِ

كأنها عاصفةٌ تجشّأتْ بَرَدْ.

فأكتفي بأنْ أشُدَّ قَبضتي

على هياجِ شعريَ الزبدْ.

 

عندئذٍ يطيب لي استذكارْ

البركةِ المهجورةِ

وبُحّةً في رنّةِ الأشجارْ،

وأنّ والديَّ زاهدانْ

بكلِّ ما كتبتُ من أشعارْ.

 

غالٍ عليهما أنا كالحقلِ، كالوِلْدانْ

كمطرٍ يرطّبُ الأعشابَ في نيسانْ

لو عَرَفا لاستخدما المِذراةْ

في طعنِكم لقاءَ كلِّ صرخةٍ وجّهتموها لي

مسكينةٌ أمّاهُ، مسكينٌ أبي الفلاحْ!

لعلّها الأيّامُ أورثتْكما القبحَ، فلا أفراحْ،

ما زلتما نهباً لخوفِ اللهِ والمستنقعاتْ.

يا حسرتي، لو تفهمانْ

أنّ ابنَكُمْ كشاعرٍ

متوّجٌ في روسيا سلطانْ!

 

كم فيكما الفؤادُ قد تجمّدا

خوفاً على حياتهِ

إذْ كان يمشي حافياً

في مطر الخريف أو نُقراتِهِ!

 

والآن في قبّعةٍ عاليةٍ

ويرتدي أحذيةً وهّاجةَ اللّمَعانْ.

لكنّه محتفظٌ بظُرفه القديمْ

مشاكسٌ قرويّ.

ومِن بعيدٍ ينحني

لصوَرِ الأبقارِ فوقَ مدخلِ القصّابْ

وحين يلتقي الحوذيَّ في الساحاتْ

يشمُّ عطرَ الروثِ والحقولْ،

يُحسُّ أنّ في مقدورِهِ

أنْ تحملَ اليدانِ ذيلَ الخَيلْ

كأنّ فيهما أطرافَ ثوبِ العرسْ.

 

ذا وطني الحبيبُ، كم

أحبُّهُ مِن وطنٍ!

برغم ما يعلوه من كآبةِ الصّفصافِ كالصدأْ.

يعجبني خنزيرُه الملطّخُ الخطمِ

وضفدعٌ نقيقُه يرنّ تحت هدأةِ النجمِ.

فمُدنَفٌ بذكرياتٍ مِن طفولتي أنا

أحلمُ بالضباب والرَّذاذ في أماسيِ الربيعْ

كأنّ سِنديانَنا

مقرفِصٌ أمامَ نارِ الفجرِ

يستلهمُ الدّفءَ.

 

لَكَمْ تسلّقتُ ذُرى أغصانِهِ

أسرقُ بَيضَ الطيرِ مِن أعشاشِهِ!

أما يزال السنديانُ الآن أخضرَ الأعالي،

ذا قشرةٍ متينةٍ أحفظُها في بالي!

 

وأنتَ يا حبيبي،

يا كلبيَ الوفيَّ دونَ ريبهْ

هل جعلتْكَ السنُّ أعمى مفرِطَ الهريرْ

تجرُّ ذيلَكَ الذليلَ إذْ تسيرْ

لا تعرف البابَ مِنَ الزريبة.

 

أوّاهِ، ما أغلى عليَّ شيطناتِنا

إذْ نخطِفُ الرغيفَ مِن أمّي أنا

ونبتدي تناوُبَ التهامِهِ

فلا يضيعُ منه شيءْ.

 

لم يغيّرْني الزمنْ

لم تغيّرْ قلبيَ المِحَنْ.

 

ومِلءَ وجهي تُزهِرُ العينانْ

سوسنتَينِ في مرْجٍ منَ الشوفانْ.

أبسِطُ أشعاري حريراً مِن ذَهَبْ

أتمنّى لَكُمُ أمنيةً طيّبةً.

عِموا مساءً كلّكمْ،

عِموا مساءً، يا بني البَشرْ!

 

فقدْ أتتْ مناجلُ الليلِ على سنابلِ الغَسَقْ…

أوّاهِ، ما أشدَّ رغبتي اليومَ بأنْ

أخطفَ مِن شُبّاكِنا القمَرْ…

والنورُ، يا لزُرقةِ النورِ على أَشُدِّها

لا حسرةً حتّى إذا ما مُتُّ في صفائِها.

 

ما همَّ أن أبدو لكمْ مستهتراً

على عجيزتي أُعلِّقُ المصباحْ!

فهل أنا بحاجة يا فَرَسي العجوزَ، يا بيغاسْ

لِعَدْوِكَ الرشيقِ بينَ الناسْ؟

 

لقد أتيتُ ماهراً وثابتَ الجَنانْ

مِن أجْلِ أنْ أُمجّدَ الجرذانْ.

كأنّ رأسي شهْرُ آبْ

يهطلُ منهُ خمرُ شعريَ الصّخّابْ

يا ليتني الشراعُ أصفَرُ الإهابْ

في البحر نحو عالمٍ نقصدُه، ينساب.

1920

***

أغنية عن كلبة

 

ذاتَ صباحٍ كلبةٌ، في عنبر الجاودارْ،

حيث أسمالٌ من الليف تنوِّر الجدارْ،

جاءت إلى الدنيا بسبعةٍ من الجِراءْ،

بسبعةٍ صُفْرٍ كما الحنّاء.

 

حتى المساءِ داعبتهمُ،

ومشَّطتهمْ، مِشطُها اللسانْ،

وكان تحت دفءِ بطنِها

يذوب قشرُ الثلج باطمئنانْ.

 

ومع حلولِ لحظةِ الغروبِ، حينما

يجثو على أعواده في العنبر الدَّجاجْ،

مقطِّباً أتى صاحبُها الفلاحْ

وحمل الجِراءَ في كيسٍ وراحْ.

 

فأسرعت تتبعه الأمُّ،

تشقُّ كثباناً من الثلِجِ، يهدّها الهمُّ

راكضةً كي لا يغيبَ بالجراءْ…

وكان ماءُ النهرِ سارحاً، مرتجفاً، رجراجْ.

 

وعندما عائدةً تقهقرتْ قليلا

تلعق ما سال من الماء على جنبَيها،

تخيَّلت أنّ الهلال فوق البيتْ

جروٌ هناك من جِرائها.

 

فحدّقت في زُرقة السماءْ،

وكشَّرت، وأطلقت نحيبَها الرنّانْ،

فيما الهلالُ ناحلاً يدورُ، هابطاً

خلْف التلال في الحقولْ.

 

ومثلَ كلبةٍ يمازحونها

ألقوا عليها حجراً، كصدَقةْ،

خبا نحيبُها، وانهال فوق الثلج دمعُها

مثلَ نجومٍ من ذهبْ.

1915

*****

خاص بأوكسجين


سيرغي يسينِن (1895 ـ 1925) من أبرز شعراء "العصر الفضّي" في روسيا الثلث الأول من القرن العشرين. "آخرُ شعراء القرية"، كما قال عن نفسه. تبنّت السلطات السوفيتية رسمياً خبرَ انتحاره شنقاً. نال الباحث إدوارد خليسطالوف (1932 ـ 2003) جائزة الدولة التقديرية على تحقيق نشره عام (1987) مبنيٍّ على أقوال وأدلّة قدّمها شهود، كان لهم صلة بالتحقيقات التي أجريت حول موت يسينِن، يؤكد فيه أن الشاعر قُتِل عمداً ولم ينتحر.