لقد خاضوا ببسالة حرباً شعواء!
واجهوا جحافل من الأطفال، وفيالق من العزّل، وبيوتاً مهّدوا بها الأرض.
وجدوا طناجر متفحّمة، ولعباً متروكة، وأراجيح مهجورة، وملائكة مهيضة الجناح، وعلب خياطة لم يُعرف فيها الخيط الأسود من الأبيض.
عثروا على سكاكين وشوك وملاعق فضية لامعة، لم ينل منها خدش أو تفحّم، وكم فرحوا بها! قائدهم قال: لقد جردناهم من أدوات مطبخهم الحربي، وحوّلنا مدينتهم إلى قِدر هائل وطبخناهم بحممنا.
وأضافوا إلى أدوات المطبخ: إبر طبية، وجهاز رنين مغناطسي وآخر لتخطيط القلب، وذاك الذي يُحدث صدمات لإنعاش القلب، ومشارط جراحية، وخيطاً جراحياً أخيراً، نجحوا بعملية كوموندس خاصة باستخلاصه من آخر جريح حُظي به.
قدّموا لنا وللعالم والتاريخ مأثرة المآثر أثبتوا فيها قدرتهم الخارقة على استخدام أعتى وأحدث الأسلحة التي هبطت عليهم من كل حدب وصوب. قائدهم قال: نحن أعظم جيش في العالم، لقد أبلت أصابعنا بلاءً منقطع النظير في الكبس على الأزرار، وتوجيه الصواريخ والقنابل بإصابات محققة، ولم يبق لنا إلا أن نرفع علمنا عالياً خفّاقاً.
وهكذا مضوا في بحثهم عن المكان المناسب لرفع العلم، وواجهوا مشكلة في إيجاد تلة أو ما يرتفع عن أرض مهّدوها، فتوصلوا إلى أن يغرزوا علمهم على تلك الأرض، فإذا بهم كلما غرزوه في مكان لفظته الأرض وارتد عليهم.
يغرزونه فيرتد
يغرزونه فيرتد
يغرزونه فيرتد …
***
استيقظت وكلي أمل أن ينهار اليأس.
شيّد اليأس معبراً بلا عبور، فاستيقظ الخاوي والتافه وأوصد الباب، ووضع رتاجاً هائلاً، وقال: ابقوا في أمكنتكم، ليس لكم إلا الموت، فهو القدر الوحيد المتاح حالياً، وعدا ذلك فهو اعتراض على مشيئة الخالق!
وضع اليأس يديه على أذنيه، فإذا ببطل يضع يديه على عينيه ليجهز عليه تماماً، وبهذا ظُن أن اليأس في طريقه للاضمحلال والتلاشي، فهو ما عاد قادراً على سماع الانفجارات المدوية ورؤية حجم الدمار المترامي والجثث المكدّسة…
نعم لقد كان في طور أن يضمحل ويتلاشى إلا أن أنفه أنقذه في اللحظة الأخيرة حين فاحت من يدي البطل رائحة استعداده ليعلن النصر على كل هذا الخراب والمآسي!
وهكذا بدا أنه من الأفضل اقتياد اليأس إلى ساحة وإعدامه بدم بارد. قيل إن البنادق الموجهة إليه أطلقت عليه كل طلقات الأمل، وكانت إصاباتها محققة ومشرقة ووضاءة.
ترنح اليأس بداية، وسقط، فهو، كما أسلفت، أُعدم بدم بارد، لكنه سرعان ما نهض، وقد تعملق، فراح فصيل إعدامه المدجج بالأمل يمطره برصاصه المشرق، ومع كل رصاصة يتلقاها بات يتعملق أكثر.
استيقظت وكلي أمل أن ينهار اليأس، فإذا به ينتصر.
***
يا لهذه الأرض القاحلة المترامية!
يا لها من قفار!
لا مؤنس ينجّيني من كآبة المشهد وعناء الوحدة!
لا وجهة ولا عبور.
وكل ما يتردد في الأرجاء يؤكد أن الإنسان ها هنا لا يساوي ثمن رصاصةٍ يُقتل فيها، وكل ما حظيت به نظّارة، وما إن وضعتها حتى انجلى كل ما حولي وتبدّى أننا لا نساوي ثمن رصاصة نُقتل فيها، وبدت تلك الحقيقة الوحيدة المتسيدة بنظّارة أو من دونها!