عبدالله السعدي: أماكن للذاكرة… أماكن للنسيان
العدد 286 | 29-4-2024
خالد بن صالح


تستكشف أعمالُ الفنان الإماراتي عبدالله السعدي (خورفكان، 1967)، في معرضه الفردي “أماكن للذاكرة، أماكن للنسيان”، الذي يمثل الجناح الوطني لدولة الإمارات في الدورة الـ 60 لبينالي البندقية (20 أبريل – 24 نوفمبر 2024)؛ العناصرَ البيئية وعلاقتها بالتاريخ الشخصي والثقافي، من خلال أعمال توثّق رحلات الفنان في البرّية المترامية رفقة كتب وموسيقى، وكائنات وأشياء حسّية تعيدُ رسمَ خريطة لذاكرة الجمعية بما فيها أماكن للذاكرة وأماكن للنسيان. يقدم المعرض تجربةٌ الفنان الجمالية والفكرية والعاطفية التى امتدت على مدى أربعة عقود من الإبداع والبحث والتجميع، تروي قصصاً وحكايات تلخّص فصولاً من الذاكرة الفردية والجمعيّة في سياقات مرئية ملموسة.

أعمال فنية معاصرة ذات أصول موغلة في القدم

يقدم معرض عبدالله السعدي فنياً وجمالياً ثمانية من رحلاته في البرّية، تُبرِز للجمهور قدرته على التقاط التفاصيل عبر رسومات ولوحات وتكوينات مكانية ويوميات مكتوبة في دفاتر، يعمل من خلالها الفنان على خلق روايات ذاتية متفرّدة، أساسُها أرشفة الكثير من الخرائط والأحجار والمخطوطات وعرضها في صناديق معدنية وعلب مختلفة الأشكال والأحجام، صناديق مرقمة ومؤرّخة ومشفرة، في توليفة شاقة هي أشبه بخلق والحفاظ على ذاكرةٍ جماعية تمتدّ مساراتها إلى المستقبل، إنها بمثابة “كنز” يحتاج إلى خريطةٍ اختار لها السعدي المواقع التي يتم الاحتفاظ بها، وتلك التي يتم نسيانها في عملية إبداعية وفكرية المركبة. يبدأ الفنان في الرسم والكتابة، أثناء سفره وترحاله، عند احساسه بالتوحد مع الطبيعة، في تطابق مع ممارسات شعراء الجزيرة العربية منذ قرون، وتشابه لحالاتهم قبل تأليف قصائدهم. بين التوثيق والمحو، الكتابة والرسم، وأساساً عدم الاكتفاء بتجميع تلك المكونات كعناصر من الماضي، إنما بربطها بتطور تاريخ الإنسان اليوم وتطلعاته المستقبلية.

ارتأى القيّم الفنّي للمعرض طارق أبو الفتوح أن يقدّم دعوة مفتوحة للجمهور لدخول هذا العالم الذاتي والخاص للفنان من الخرائط المرسومة واللوحات ونظام الأرشفة من خلال سفر دائم ومتجدّد، عن طريق استعادة الأجواء الخاصة باستوديو الفنان وسرد لقصصِ والحكايات عن استكشاف الأرض ومكانة الإنسان فيها، حيث يتفاعل الجمهور مع العناصر الفنية المعروضة من خلال رحلة يتجوّل فيها الزوار عبر مسار طويل من الأعمال الفنية، وصولاً إلى الرفوف المعدنية بصناديقها المغلقة، والتي تُخزّن بداخلها “كنز” عبدالله السعدي الفريد، حيث القطع الفنية المخفية والمخطوطات واللفائف والصخور الصغيرة، والتي يتمّ الكشف عنها تدريجياً بواسطة ممثلين متواجدين باستمرار في فضاء المعرض، يتفاعلون مع الزوّار ويروون لهم القصص بإعطائهم تلميحات عن رحلات وطقوس الفنان في إنجاز أعمالهِ وارتباطها الوثيق بالذاكرة الجماعية وطرق استعادتها في الوقت الحاضر.

رحلات في الذاكرة

تعكس الأعمال الثمانية لـ عبدالله السعدي الشغف الفني المتجذّر في الزمن وسيرورته، وعلاقات الإنسان بالبيئة، وهو هنا الفنان المتجوّل والمؤرخ ورسام الخرائط والشاعر والخيميائي وحامل الذاكرة وراوي القصص، وقد توزعت رحلاته إلى الطبيعة في ستة أعمالٍ سابقة هي: رحلة الطوبى، رحلة الخرير والحرير، رحلة النعال، رحلة على خطى قمرقند، رحلة على خطى قمرقند بالسيارة، رحلة الصوفي.. بالإضافة إلى عملين جديدين تم إنتاجهما خصيصاً للمعرض وهما: رحلة الجرامافون في الحورة، ورحلة الجرامافون على دراجة.

تصميم معرض “عبدالله السعدي: أماكن للذاكرة، أماكن للنسيان” مستوحى بشكل وثيق من العالم الذي صاغه الفنان في عملية الحفظ والأرشفة، والتي هي جزء لا يتجزأ من ممارسته الفنية. ليتم استكشاف تلك العناصر في صناديق أشبه بصناديق الجدات أو صناديق جزر الكنز المخفية في الروايات. وكنوع من التورية وطقوس الظهور والاختفاء، بين الظاهر والباطن، تُفتح الصناديق المعدنية القديمة وتغلق، ثم تحفظ في صناديق أخرى ليُعاد اكتشافها من جديد. وليتقاسم الجمهور بذلك تجربة كل رحلةٍ وكل “طريق” في سفر لا يتوقف، بينما تمسي التواريخ التي يدوّنها الفنان والأرقام والرموز والعلامات على كل صندوق بمثابةِ إحالات أو إشارات تدلّ الزائر المشارك في السفر على وجهةٍ أو طقسٍ ما، وعلى سيرورة زمنية بتعبيرات مختلفة بين الأبيض والأسود وصولاً إلى القطع الملونة، واندماجاً في رحلات الفنان وعالمه المتخيّل.

سجّلات حيّة

السجّل الحسّي لرحلات الفنان عبدالله السعدي هو بوصلة تأمّل أعماله بدل تفسيرها أو تحليلها، فالذاتي والشعري وكل ما رسمه الفنان من خرائط ولفائف وما دوّنه من كلمات في رحلةِ حياته حتى الآن؛ مدعاة للانغماس والتأمّل في وقائع رحلاته وما سجّله من ملاحظات عبر الأماكن التي يرتحل فيها، في ممارسه فنية فريدة، تنطلق من عناصر الطبيعة بعيدة المنال والخالدة في الوقت ذاته، وترافق السعدي في هذه الرحلات حيوانات أليفة من مثل الحمار والطائر والدجاجة والكلب، ليوثق وجودها في سجلات حيّة مثلها مثل البحار والجبال والكثبان الرملية والطرق والبيوت والأماكن المفتوحة وقد تحوّلت إلى كينونات صغيرة مشحونة بعاطفة إنسانية قوية، تم تخزينها في صناديق للذاكرة تحمل علامات ورموز مشفّرة استطاع الفنان بخبرتهِ فكّها وإعادة اكتشافها مجدداً في تقاطعٍ جغرافي بين التراث والأدب والخيال والتقاليد الشعرية العربية وامتدادها عبر الزمن.

عن الفنان:

عبدالله السعدي فنان إماراتي يعيش ويعمل في خورفكان، وهو أحد الرواد الخمسة للفن المفاهيمي الذين عزّزوا المشهد الفني المعاصر في الامارات العربية المتحدة منذ الثمانينيات، وأثّروا على جيل كامل من الفنانين في المنطقة. درس السعدي الأدب الانجليزي في جامعة الإمارات العربية المتحدة في العين، والتحق بعدها بجامعة كيوتو سيكا في اليابان حيث درس فن التصوير الياباني بين عامي 1994 و1996.

تتراوح أعمال عبد الله السعدي ما بين التصوير والرسم والكتابة في دفاتر يوميات، وبين تجميع وتصنيف الأشياء التي يعثر عليها وصولاً إلى اختراع أبجديات جديدة. تستكشف ممارسات السعدي الفنية البيئة والتاريخ الثقافي المحلي من خلال تاريخه الشخصي واندماجه في الطبيعة ورحلاته خارج المدن وفي البرية .

شارك عبدالله السعدي في العديد من المعارض الجماعية والفريدة محلياً ودولياً. وفي 2021، أنجز عملاً من الأعمال الدائمة في إطار “برنامج الفنون البصرية في الأماكن العامة” لإكسبو 2020  دبي. كما شارك في بينالي الشارقة 12 &13 (2015، 2017)؛ والدورة الـ54 والـ56 لبينالي فينيسيا (2011، 2015)، و”هنا وهناك”، المتحف الجديد، نيويورك (2014). وقدم معرضاً فردياً بعنوان “الطوبي” في مؤسسة الشارقة للفنون عام 2014، وشارك في معرض “تعابير إماراتية، رؤية تتحقق”، منارة السعديات، أبو ظبي (2013)؛ وفي لغات الصحراء، متحف الفن (كونستميوزيوم) في بون (2005): وفي بينالي سان باولو (2004)؛ وفي “فن الخمسة من الإمارات العربية المتحدة”، منتدى لودفيغ للفن الدولي، آخن، ألمانيا (2002).

 


شاعر من الجزائر صدر له "سعال ملائكة متعبين" 2010، "مائة وعشرون متراً عن البيت" 2012، و"الرقص بأطراف مستعارة" 2016، و"يوميات رجل إفريقي يرتدي قميصاً مزهراً، ويدخن L&M في زمن الثورة" 2019. و"مرثية الأبطال الخارقين" 2023.