صدرت عن “محترف أوكسجين للنشر” في أونتاريو مجموعة شعرية جديدة للشاعر السعودي سلطان محمد، حملت عنوان “صلوات الصعاليك”.
في هذا الكتاب المنذورِ للصلوات والصعلكة، تطالعنا قصائد منفتحة على قسوةِ الصحراء وشغف الحياة في آن واحد، يختبرها سلطان محمد كتجربةٍ للتيه والتحرّر والانعتاق، راسماً خريطةً شعرية لكلّ ما يمزج حسّه الصوفي بالحداثي والمعاصر، ولتُمسي المناجاةُ الإلهية مناجاةً حسّية محضة: “امنحني حجرَ الشعراءِ تحتَ لساني ولو كانَ حصاةً”، بينما يبحث الشاعر في أول الكتابِ عن مكانٍ ليرفعَ احتجاجه بأعلى صوت: “لو هُيّئَ لي مكانٌ صراخيٌّ/ مكانٌ صباحيٌّ بفضّةٍ شاحبةٍ/ يكونُ لساني هناكَ ريشةً/ ويكونُ صوتي هناك ريحاً”. هكذا جملةً بعد جملة، صلاةً تلو صلاة، “وقافيةً ضاعتْ في قصيدة نثرٍ لتصيرَ أحلى”، يظلّ محمد يقظاً، يراقب هذا العالم الآيل للانهيار، منتشياً، حراً، مناجياً: “رَبِّي بدِّلْ روحي بأجنحة!”
هذا التحليقُ بين الكثبان الرملية، ليس سماوياً ولا هو بهروب مؤقت، إنما ترحالٌ حسّي ملتصق بكل ما هو أرضي وهامشي وحميم، هو توق لا يخلو من قسوةٍ وجرأة في طرح الأسئلة، ومضيّ بالمخيّلة الشعرية إلى أبعد الحدود، لهذا، كما جاء في كلمة الغلاف: “تستحيل قصائدُ الشاعر السعودي سلطان محمد في هذا الكتاب إلى صلوات يمتزجُ فيها التصوّف بالصعلكة، وأغنيات تُبارك وتلعن، تشفُّ وتقسو، والعشق على أشدّه جسداً وروحاً، والمخيلة إلى أقصاها، إذ لا حدود ولا حواجز ولا خطوط، بل عوالم كلما اقتربت منها ابتعدت أكثر، وقادتك إلى المجهول والجديد أبداً، فالبحر والصحراء وجها الشاعرِ في المرآة، والخوف وحشٌ أليفٌ يهزّ ذيله، بينما تكفي ساعة من الضحك لتدور قربةُ الماءِ على قافلة الشعراء العطشى منذ هوميروس وصولاً إلى سلطان محمد”.
إنه زمن الأسئلة الذاتية إذاً، الأسئلة المعلّقة، الجارحة، والتي يصيغها الشاعرُ سلطان محمد بلغةٍ غنية وكثيفة، تلخّص حاجتنا المتجددة لمثل هذه القصائد العميقة بصورها الشعرية، وتأمّلها في الحياة من قلب التجربة، أو كما تشي به قصيدة “ساعة يدٍ ليدٍ مقطوعة”:
“مَن نحن إلا أوقاتٌ تضطربُ في ساعةِ يدِ غريق،
ما الوقتُ إن لم يكنْ إيذاناً بالرحيلِ كمثلِ راعٍ أبكم
يريدُ أن يحذِّرَنا من ذئبٍ في ثيابِ خَروف
لماذا لا أكسرُ ساعتي؟ إلا خوفاً من أن ينكسرَ ضلعي من الخفقان
ما ساعةُ اليدِ غيرُ سؤال متنقل بلا جواب ثابت،
كم الساعةُ الآن؟”
عبر 71 قصيدة متوسّطة الطول، موزّعة على سبعة أبواب، يضعنا سلطان محمد في مواجهة ذواتنا، بين أصوات حياتنا اليومية وصداها في أعماقنا، ليكتب كل واحدٍ منا نشيده الخاص للحرية، كما كتب محمد في قصيدة “نشيد وطني”:
“فلتكنِ الحريّةُ دودةً بدلاً من طائرٍ
ولتنخرْ هذه الدودةُ الأرضَ عميقاً
حتى تتهدّمَ
حتى تنهارَ
حتى تتناثرَ في الجوِّ
طائراً صغيراً فطائراً أصغرَ فعصفوراً
فتغريدةً
فصوصوةً
فصفيراً حادّاً حيثُ الريحُ وحدَها فقطْ وما مِن أرضٍ
حيثُ هذه الريحُ الوحيدةُ تماماً هي: الحريّة!”
كما لو أنّ سلطان محمد يكتب هنا رسائل حبّ في الصحراء وصعاليكها، مداها وزوابعها وعطشها، مشاكساً الغيب والسراب، الجسد والرغبة، الشك واليقين، والظلال التي ترافق كل خطوةٍ في هذا المدى المفتوح، وما من كائن خارج المكاشفة والسخرية والمساءلة، بما في ذلك الشاعر نفسه!
“صلوات الصعاليك” (152 صفحة)، هي ثاني مجموعة شعرية لـ سلطان محمد (السعودية، 1991)، بعد “السبعون شأناً”، (2021).