تذكارات لحياة مقطعية
العدد 286 | 29-4-2024
رؤى سلطان


“إن حياة السرطان هي استعادة لحياة الجسم، ووجوده صورة مرآة مَرَضية لذواتنا. حذرت سوزان سونتاج من إثقال كاهل مرض ما بالمجازات والاستعارات، لكن هذه ليست استعارة، فخلايا السرطان هي من حيث جوهرها الجزيئي الأساسي نسخ من أنفسنا، لكنها نسخ مفرطة النشاط، موهوبة بميزة البقاء، وفوضوية، وخصبة، وخلّاقة.” [1]

 

منذ خمسة أشهر اقتربت عنوة إلى عوالم تقابل الحياة، صارت تواظب على مضض على زيارات لفئات متفاوتة من خدمات الرعاية الصحية، تستحضر مرارتها عندما واجهت لأول مرة حاجتها لمغذّي يمدّ جسدها بطاقة فورية، وظلت على سرير الطوارئ تبكي ولا تفهم كيف يمكن لمحدودي الدخل أن يصلوا لعلاجات ناجعة. أول صدمة طبقية تشي بالنفور من حقائق العالم وصدامها معه.

بعد دورة على مستوصفات الأحياء، ومستشفيات الـ VIPs، والمدن الطبية، اتسمت بطبيعة ساكنة تهيب بالمرض وأوجه الموجوعين، وتظهر بهيئة أخرى تدعو إلى التسلي والاستخفاف حالما تكون معه؛ إذ تتحول ممرات المشفى إلى قواقع تجيب صدى الضحكات وهمس النكات.

تأملت لوحة “قسم الطب النووي” معلقة في منتصف الممر ونازلة من أعلى السقف، بينما على نطاق مترٍ واحد تنتشر على الجدران لوحات مرسومة بالرصاص تشير إلى انتصارات توحيد الدولة ورسائل مهمة تضمنتها المرحلة، وتختلط عليها عشوائية الأمر وتعيد تركيزها على الجملة والمستقبل المتخيل الذي كانت سترمي نفسها إليه:

بين مرضى السرطانات، وحقنهم بمواد مشعة مثل FDG وإرشادهم إلى ضرورة التبول قبل الخضوع لتصوير مقطعي بأشعة البوزيترون (PET)، أو تنحية رجل يصرّ على استكمال إجراءات الفحص بعد أن قطع صيامه؛ لئلا يحرج مضيفه ويشرب فنجان قهوة ظاناً أن على السرطان تقدير أعراف البدو.

لم تشاهد إلى الآن نتائج زوجها بعد انقضاء الدورة الأولى من العلاج الكيميائي، استطاع في المرة الأولى أن يشتت انتباهها عن مراجعة طبيب الأورام معه موكلاً إياها بمهام إجرائية ليختلي أمام صورة مقطعية من نقاط تشع بفجاجة إلى ثغرات وجدت طريقها نحو جسده الذي أحبته.

عبّرت مرة عن ندمها عن عدم دراستها للطب؛ وكأنها بذلك تعتذر عن اكتشافهما المتأخر لانتشار المرض في مرحلته الرابعة، يفهم تذمرها وفزعها، ويعلم أن الأمران سيّان. أبدى استسلاماً بريئاً حيال معرفته بمصابه، وقوة ضارية في عيش الحياة بتأنٍ وسعادة، ها هو اليوم يعرف تماماً قيمة حياة خالية أو متخففة من الآلام، ويثير تفكيره أن نقيض الحياة ليس الموت، بلا شك، بل المرض. شاطرها مرات الهلاوس التي مرّ بها إزاء حمى نفضت جسده، وانجراره نحو مصفوفة تساؤلات غفل عنها بالانشغالات المعتادة، حكى لها أعجوبة انمحاء الحدود بين الواقع والحلم، واختفاء المعاني الكبيرة، وتلاشي الشعور بالزمن، والقدرة المبهرة على تجريد كل شيء، ضحكت حينها على أوصافه، وقالت: هذي حمى وإلا LSD!

بعد أن قرر الطبيب الخطة العلاجية، 12 جلسة بمعدل 3 دورات، كل أسبوعين جرعة، يذهبان للمستشفى معاً، ويمتد الطريق الطويل للمدينة الطبية بأفكار لتخفيف ساعات الجلسة، تتولى هي القيادة بينما يسترخي في المقعد بجوارها ويبتسم من تبادل الأدوار. ما إن يعودا من المشفى حتى تقتنص لحظة دخوله للحمام أو تغييره لملابسه، وتُخرج من المخبأ هدية قررت أن تمنحها بعد كل جلسة علاج كيميائي كتذكارات عبور:

الجلسة الأولى: بيجامة نوم قطنية؛ استعدادًا لأوقات النوم الطويلة التي تنتظره.

الجلسة الثانية: ماكينة حلاقة، بعد أن سمعته يسأل الممرضة عن الوقت المتوقع لتساقط الشعر، وأجابته بعد الجرعة الثانية.

الجلسة الثالثة: النصوص الأخيرة لأسامة الدناصوري، وكتبت في مقدمة الكتاب إهداء: تخيل أن الفشل الكلوي أفظع من السرطان؟! وضحك كثيرًا من تلك المواساة.

وهكذا توالت الهدايا التي حاولت فيها أن تكون عملية ومسلية وذكرى مرحة عن لحظات ذبوله أو ربما تشافيه.

تتمدد بجواره على السرير وفي حضنها اللابتوب.

يسألها وهو يتململ النظر للجدار: ايش تسوين؟

  • أكتب عنا.
  • بتطلعين فضايحنا!

تنظر له بسخرية ولا ترد.

  • قلت لك إن أريج قرأت اللي نشرتيه؟
  • ايش قالت؟
  • كأنها استغربت.

يحوم الصمت بينهما مجدداً، تستمر بالكتابة، وتخصص ملفًا كاملاً لمتابعة مستجدات مرض زوجها، تستغل خصلة المواظبة وتدوين الملاحظات لمراقبة تطوره، تعرف تماماً عدد كريات دمه البيضاء وانفجارها عند مستويات مرعبة خالقة بذلك تعريفًا جديدًا لمستواها الطبيعي.

بينما تصدر أوراق تحليل ما قبل الجلسة، تولي انتباهاً استثنائياً لمخرجاته، تراقب الأرقام كما يضارب رجل أعمال في سوق البورصة. تتكاثر كريات الدم البيضاء كجنود باسلة تتلقى مهاماً بالإنقاذ الفوري. تفكر باستعارات مثل محاربة السرطان، تشعر بالانزعاج من فكرة الحرب، والجنود، والقتال. تتوقف لتمعن في انزعاجها:

“حرب قائمة في جسد الرجل الذي يستلقي بجواري، ها هو هادئ المحيا، يسترخي بكسل مفروض عليه، ويبدو وكأنه في استراحة عمل، أين هي إذن الحرب؟”

هناك شيء مفجع في عدم القدرة على لمس الأشياء أو مشاهدتها خلف ستار الجسد، إذ يصعق تطور الأدوات الطبية قدرتها على التمييز، لكن حياداً ما يلتف حولها، يصيبها بالعجز عن التصديق أو الفهم، تذكر نفسها بوظائف ومعاني كل تلك الرموز الغامضة في كل مرة تواجهها فيها وكأنها تخوض بذلك اختباراً نهائياً، بتجاوزها إياه يمنح لها فرصة الإحساس بالسيطرة على خلايا سرطانية تفوقهما جبروتاً وعشوائيةً.

مع انخفاض مناعته، اضطر في بداية الأمر الذهاب، لخمسة أيام متتالية بعد الجرعة، لمستوصف الحي حتى يأخذ حقن المناعة، إلى أن تبرعت الممرضة وعلّمته كيف يحقن إبرة في العضل يتناوب فيها فخذه الأيمن والأيسر. أخبره الطبيب بأن العلاج الجديد أظهر نتائج مبهرة على مرضاه السابقين، وإن أمكن أن ينضم هو بدوره إلى البحث الذي يجريه بشأن نجاعته، ضحكت من الأمر:

  • يعني بتساهم في تطور علاج – تضخم صوتها- “سرطان الغدد اللمفاوية”!
  • وأنتي الصادقة حقل تجارب.

قشرة جديدة تكشف عن محتويات ظنت أنها فحصتها بمجهر فاضح، تغيرت وتيرة حياتيهما ببطء معقول، وتحرص هي على استحضار الشوائب اللامرئية التي تخفيها المشاعر والأفكار بينما يواصل الجسد دورته في اختبار آلام وإحساسات جديدة.

في المشفى، غالبية مرضى السرطان من الرجال يأتون منفردين، وكأنهم يخوضون بذلك مهمة معتادة عاجلة تلبيةً لحاجات الجسد، ويسارعون بعدها إلى مهامهم المملة، بينما تأتي مريضات السرطان بنفر أو اثنين على أقل تقدير للمواساة وتزجية الوقت، وكان ذلك بداية نقاشاتهم المزعجة، ينحرج هو من رغبتها بمرافقته الدائمة ورعايته، وتوصلا في نهاية المطاف على أن ترافقه جلساته الأولى إلى أن تطمئن.

تتجنب غرف الانتظار وسماع المرضى ومرافقيهم. تحمل أصواتهم نبرة توديعية وأسفية، بينما يتجاذبون أحاديث تتجاوز التطمين، لا يمكنها أن تبحر فيها مثلهم.

خرجت مرة لاستنشاق الهواء في كراسي مدخل مبنى الأورام، بينما جلست بجوارها امرأة، تقطع صمتهما بسؤال تجيبها هي باقتضاب خشية أن يتشعب الحديث، واضطرت مجاملة أن تبادلها أسئلتها:

  • وأنت مين لك مريض؟
  • بنتي، عمرها 10 سنوات.
  • الله يقر عينك بصحتها، شسم السرطان اللي فيها؟
  • يختي مدري، هو في العظام، ماعاد صارت تتحرك.
  • لاحول ولاقوة إلا بالله.

تشيح المرأة بنظرها للجهة اليمنى، مخاطبة الله مفضية بهواجسها

  • يارب إن كان بيعذبونها هالأطبا، خذها وريحها.

تصيبه جرعات الكيماوي بأرق شديد في أول يومين من ضخه في جسده، أربعة محاليل تحرص الممرضة على تغليفها بكيس أسود لئلا تتفاعل مع الضوء أو ربما لإخفاء حمرتها الداكنة الشبيهة بالدم، عدا عن المحاليل الطبية الأخرى لتخفيف الآلام والتقليل من حدوث القيء والغثيان.

مع تردده على المشفى، تطورت معاييره تجاه الغرفة التي يفضل الركون فيها لما يزيد عن أربع ساعات، غرفة تستوعب مريضي سرطان، واحدة بالقرب من الباب، والأخرى بها نافذة عرضية تكسر بلادة الجدار الأبيض. سرير رقم 8، هو مكانه المفضل، يتندر أمامها بأن كل من يأتون قبل الثامنة صباحاً -قبل وصول الأدوية وتسجيل الممرضات لأسماء مرضى اليوم- لهم تفضيلات خاصة وسمات شخصية عبيطة؛ وإلا من يرغب باستفتاح يومه بحياد درجات البني والبياض التي تذكر الجميع بأنهم هنا للترجل عن الحياة ومقابلة نقيضها؟

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] السرطان: امبراطور المآسي، سِيدهارتا موكرجي

*****

خاص بأوكسجين