تطرح سيزا قاسم في الفصل السابع والأخير “القراءة في التصوير والأدب” من كتابها “القارئ والنص- العلامة والدلالة” أسئلة عديدة مهمة حول قراءة النص اللغوي وتماثلها في قراءة اللوحة التشكيلية “الصورة” وتحاول أن تقارن بين التشابهات والفروقات، التي تُميز النشاط الإنساني، عندما يتوجه نحو أشياء ذات طبيعة مختلفة؟ وتتساءل إن كان هناك أي فائدة من إقامة مثل هذه المقارنة أو إنها جهد عقيم ومضيعة للوقت؟
تقترن القراءة في الوهلة الأولى بالكتابة لأنها العملية المقابلة التي هي إنتاج علامات مرئية لأصل مسموع، ولأنها ليست فك شفرة شيء مكتوب إنما في الأصل فك شفرة شيء مسموع، لأن القراءة تقتصر على حاسة البصر.
أن ما يعنينا هنا، بشكل خاص، هو ترتيب أسئلة الكاتبة ذات الدلالة المهمة لأي بحث يتناول العلاقة بين الصورة و الكلمة، في مجال أبعد من المجال الذي تتناوله الكاتبة، أي مجال طبيعة الدلالة في الصورة السينمائية،الذي يتم العمل فيه على العلاقة بين الكلمة والصورة.
لكن قبل كل شيء نبدأ في التعرف، أولا، على الأسئلة الكاتبة نفسها:
• هل قراءة النص اللغوي تماثل قراءة اللوحة “الصورة”؟
• هل الكلمة والصورة علامتان سيميائيتان؟
• هل الصورة هي دائما ممثل للشيء بينما الكلمة هي دائما بديل للشيء؟
• هل الدلالة في الكلمة هي نفسها في الصورة؟
• هل الكلمة والصورة تدركان بنفس الطريقة؟
• هل التسلسل في القراءة هو نفسه في الكلمة والصورة؟
• هل يمكن التعبير عن نفس الرسالة بالكلمة والصورة معا والتوصل إلى نفس الدلالة؟
إذا ما كانت الكتابة إنتاج علامات مرئية لأصل مسموع. والعلامات المرئية “الكلمات” إنتاج لأصل مرئي، فكيف يكون الحال عند ممارسة الكتابة للسينما الذي تكون غايته إنتاج علامات مرئية وعلامات مسموعة، فهل يتم، هذه الحالة، إنتاج علامات مرئية ومسموعة من أصل مسموع، أم يتم إنتاجها من علامات تكون من أصل مرئي؟ وكيف تكون العلاقة التعبيرية، في هذه الحالة، بين ما هو أصلا مرئي وبين ما هو أصلا مسموع؟ فإذا ما كانت الصورة تأتينا من خلال البصر، بينما الكلام يأتينا من خلال السمع، فان كتابة الصورة وكتابة الكلام يأتينا، في أصل الكتابة للسينما، عن طريق البصر.
بمعنى آخر، يأتينا مصدر الصورة وما يصاحبه من كلام، عضويا، من التصوّر.
نحن إذن حينما نتصور نرى ونسمع في ذات الوقت ونحاول:
أولا: أن ندون ما نريد تحويله من كل ما نتصور إلى علامات مرئية- كلمات-.
وثانيا: أن نحول العلامات المرئية-الكلمات- إلى صور وأصوات في نسيج تعبيري آخر، في وسيط آخر.
أهمية الأسئلة التي تطرحها سيزا قاسم لا تعيدنا إلى طبيعة العلاقة بين الدال والمدلول في اللغة الطبيعية ولا إلى طبيعة تحول الدال كصوت إلى صورة ذهنية، إنما إلى الدلالة وبالتالي تأتى أسئلتها من طبيعة الناتج النهائي من تحول الدال إلى المدلول. وتكتسب هذه الأسئلة أهميتها القصوى في العملية الفيلمية وهي تساعد دون أي شك على أدراك طبيعتها، إذا ما حاولنا أن نجد لمثل هذه الأسئلة أجوبة صحيحة.
لنحاول أولا ترتيب الأسئلة، ولإجابة على كل سؤال منها على حدة:
1. الكلمة علامة سيميائية والصورة علامة سيميائية أنهما لا يدركان بنفس الطريقة.
تجعل الصورة في واقع الحال الشيء المصور فقط مرئياً، لكن بطريقة مختلفة تماما عن الطريقة التي نرى فيها الأشياء في الطبيعة. فالصورة تملك درجة معينة من التجريد، مما يقود إلى خلق مسافة بين الصورة وبين ما هو مُصوَّر. ولا يمكن اعتبار الصورة بمثابة نسخة طبق الأصل عما هو مُصوَّر ، إنما هي علامة، يفهم بها ما هو مُصوَّر. على هذا الأساس لا يوجد فارق كبير بين الكلمة والصورة، فالكلمة هي ليست نسخة طبق الأصل عن الشيء الذي ترمز إليه (الكلمة ((كلب)) لا تنبح). إنما بالكلمة يفهم الشيء. والفرق يكمن فقط في طريقة هذا الفهم. فبوساطة الكلمة يكون الفهم في استعمال مفهوم ما. سبق لنا التعرف عليه، بينما يقتضي فهم المعنى بواسطة الصورة فقط عمل الإدراك.
ولنذكر هنا عبارة كلاوس موديك الحاذقة: “أن من يفكر ويتكلم في مفاهيم ذات صيغة لفظية على شكل كلمات، وليس في صور، فانه يتصرف إزاء اللغة وموادها بشكل غاشم. لآن أداة اللغة هي، من باب أولى ، الصورة. فالسرد هو استرداد صيرورة صورة اللغة”.
يمكن للمرء أن يستنبط أحكاماً حول الشيء بسبب من أن الكلمات والصور هي نسبياً مدارك حسية للأشياء، على هذا يمكن أن يتم التعبير عن الأفكار والمشاعر والرغبات، كما يمكن بذلك إعطاء معنى ودلالة. ولكي نتحاشى سوء الفهم علينا أن نقول بأن تعبير ³معنى له على الأقل معنيان. فالكلمة هي رمز اصطلاحي ينوب فيها الدال دائما عن المدلول على أساس المواضعة، على هذا تملك الكلمة علاقة غير مباشرة بما تدل عليه وتكمن قوتها في استعمال علامات يتباين فيها الدال والمدلول. أما الصورة فهي علامة ايقونيه، مدرك حسي تملك علاقة مباشرة بما تصوره. وتكمن قوتها، بشكل خاص في السينما، في استعمال علامات يتطابق فيها الدال والمدلول.
وعلينا، إضافة إلى ذلك، أن نميز بين مرجع العلامة ومدلولها، أي معناها، فالدال والمرجع لا يقويان على تشكيل العلامة، فالدال ليس هو الكلمة والمدلول ليس هو الشيء الواقعي الذي يدل عليه. فالعلامة، بدالها ومدلولها ترجع إلى العالم الحسي الملموس، الحقيقي أو الوهمي، المعلوم أو المجهول. وتأتي الدلالة من علاقة العلامة بالمرجع ومن وحدتهما. إذًا فالمدلول هو الذي يربط عملية التصور الذهني على أساس علاقته بالمرجع في الواقع الخارجي.
2. هل التسلسل في القراءة هو نفسه في الكلمة والصورة.
يسمح لنا التشابه في مستوى التركيب الأفقي ومستوى الاختيار العمودي في فنون خاصة مثل الرسم والسينما، أن نعتبر هذه الفنون مادة للسيميوتيك، أي كأنظمة مبنية وفقا لنموذج اللغة. وبما أن وعي الإنسان هو وعي لغوي، فإنه يمكن اعتبار جميع أنواع النماذج، تبنى على أساس الوعي نفسه ـ بما في ذلك الفن ـ وفق أنظمة تنمذج ثانوية بالعلاقة مع اللغة الطبيعية، التي هي -حسب يوري لوتمان- وسائط من نوع آخر ثانوي. وهو إذ يعتبر اللغة “نظام تنمذج أولي” في التعبير، فأنه يعتبر وسائل التعبير الأخرى الأدبية والفنية “نظام تنمذج ثانوي” في التعبير، وقلما يستطيع نظام التنمذج الثانوي، وهو يبتكر لغته في التعبير، الاستغناء عن النظام الأولي.
3. هل يمكن التعبير عن نفس الرسالة بالكلمة والصورة معا والتوصل إلى نفس الدلالة.
هنا يجابهنا أيضا الفرق الأولى، في العلاقة بين الدال والمدلول، بين العلامة الكلمية السمعية والعلامة البصرية المرئية، فالعلامة ((الكلمية)) تأخذ في السيناريو مثلا خاصية جديدة، تنتج من إرادة الشكل ذاته في تحول بنيته إلى بنية أخرى، حيث تتحول فيها الكلمة، من مفهوم مجرد إلى مدرك حسي: أي علامة أيقونية تخلق معناها الخاص. فالكلمة علامة معجمية، يسبق وجودها النص الأدبي، ويسبق مدلولها في وجوده الدال، أما العلامة البصرية فوجودها خاص يبتكر، ويسبق الدال في وجوده المدلول. في الحالة الأولى يتم التعامل مع العلامة وفق معناها المعجمي، وبهذا يسبق وجودها وجود النص. أما في الحالة الثانية فيتم التعامل مع علامة، غير معجمية، يبتكر معناها من عملية بناء النص ذاته.
4. هل يمكن قراءة اللوحة/الصورة عن طريق ترجمتها إلى خطاب لغوي وهل ستتحول دلالتها بناء على ذلك، إلى دلالة لغوية.
وكما يخبرنا جان ميتري فأن الصورة، ولكونها صورة، تضاعف معناها التمثيلي، أي تعبيريتها الخاصة، بدلالة تعبيرية ثانية هي تعبيرية لغة الكلام. وبهذا يكون للصورة المرئية -حسب جيل دولوز- وظيفة قرائية. ويتم وصول المعنى ليس من وراء الصورة إنما يأتي من ما بين الصور، من هنا تأتى ثنائية الفهم من الإدراك الحسي أولا ومن اللغة كأداة تفكير ثانيا. الأمر الذي يسميه ميتري الإدراك الحسي الواعي أو الإدراك السينمائي.
من المفيد أن نرجع إلى مفهوم سوزانه لانغر كأساس لرمزية غير خطابية تسميها “رمزية تمثيلية” انطلاقا من طبيعة الصور. وهي ترى أن جوهر اللغة، بالمعنى الضيق، هو داليتها وامتلاكها وحدات معنى ثابتة، تجعلها ترتبط في وحدات كبيرة، لها معادلات ثابتة تجعل تعاريفها وترجمتها ممكنة، كما تجعل تضميناتها CONNOTATION عامة ومتداولة، بحيث أن أفعال غير كلامية مثل الوصف والعيان والنظرات أو التأكيد في تغيير نبرة الصوت يمنح تعابيرها التعيين DENOTATION المميّز. وبالتالي تجد أن الفرق أصلاً في إن الأشكال البصرية ليست استدلالية، بالمعنى اللغوي،إنما تقدم هذه الأشكال مكوناتها البصرية بالتزامن العمودي وليس بالتتابع الأفقي، مما يقود إلى فهم بنية العلاقات البصرية، أثناء فعل المشاهدة. وان شكل هذه المزية يناسب، بشكل خاص ،التعبير عن أفكار تتعارض مع الإسقاط اللغوي، لأن الصورة تعبر عن “ما لا يقال” لكن أيضا يمكن للرموز التمثيلية، كحاملة لمعاني بصرية واستعارة في نفس الوقت، أن تجد لها مدخلا في التعبير اللغوي.
الهدف من محاولة الإجابة على الأسئلة الملهمة لسيزا قاسم وهي تحاول إقامة جسر بين الأدب والتصوير هو أيضا إثارة مناقشات منتجة ومفيدة بين أهل اختصاص الصورة وأهل الكلمة. ولا شك إن أسئلة كهذه يمكن أن تقترب من موضوعة القراءة والرغبة في قراءة حوارية تستطيع النصوص أن تتقاطع فيها وتتوازى وتتصارع، وتساهم في إغناء دراسة سيزا قاسم المنتجة والممتعة.