حفار القبور
العدد 292 | 26 كانون الثاني 2025
ميلينكو يرغوفيتش | ترجمة: زيد سلامة


إيّاك ودفن الأموات في وادٍ، المقبرة يجب أن تكون على تلّة مطلّة على المدينة.

هناك تستطيع الاستجمام فوق التلّة مثلاً أو أن تتمشى بين القبور تقرأ شاهد كل قبر وتتصفح صورة كل ميت على ضريحه.

لنفترض مثلاً أنك التقيت بغريب يفترش العشب وأبدى اهتماماً بحكاية مدفونٍ هنا… الآن تستطيع قصّها بكل بساطة، بما أنك على التلّة يمكنك تذكّر حكاية كل ميت من دون أن تتوه في الذاكرة، فكل أحداث حياته حصلت هنا أمام ناظريك في المدينة.

لنقل إنك في مقبرة “أليفاكوفاتش” والتقيت هناك بإيطالي يرغب في معرفة قصة حياة علي… تبدأ أنت الحكاية: “ولد علي في حي كوفاتشي”، ثم تشير بإصبعك لكي يرى الزائر مكان الحي، وبيدك الأخرى تشير متابعاً: “درس هناك في تلك المدرسة بالقرب من ذلك الجسر، وعندما بلغ السابعة عشرة، وقع في حب فتاة جميلة تُدعى مارا والتي عاشت في حي بيلافي! انظر يمكنك رؤية بيلافي من هنا من المقبرة، لكن أباه لم يسمح له بالزواج منها، فهرب من المنزل وانتقل للعيش مع مارا، ثم اختبؤوا في إليدجا لثلاثة أشهر، بالمناسبة إليدجا هو ذلك الجبل البعيد الذي بالكاد يمكنك رؤيته خلف الضباب، المهم اكتشف الأب مخبأ علي وترجّاه ليعود إلى المنزل، ولكن علي ركب رأسه، لن يعود إلّا ومارا معه، وافق الأب على مضض بعد أن اقتنع بأن حبهما من النوع الجاد، فعاد علي برفقة مارا إلى كوفاتشي ولكن لم يكن مسموحاً لمارا بالخروج من المنزل كيلا يراها الجيران، شعر علي بالشفقة على مارا، فاعتاد أخذها بين حين وآخر خلسةً في الليل إلى المنحدر فوق ثكنات يايتسي ليرفّه عنها، كانت عندما تعتاد عينيها على الظلام ترى حي بيلافي، أو على الأغلب تتخيل رؤيته، غالباً ما كانت تبكي واستمرت نوبات الشجن لديها قرابة عام إلى أن قام أبو علي ببناء بيت لهما في بيستريك، هناك، يمكنك رؤيته؟ انظر… المسجد ومصنع البيرة ومعسكر الجيش.. تلك بيستريك!

انتقل علي ومارا إلى بيتهما بعد الزواج، ولك أن تتخيل نهاية سعيدة، وعاشا بكل حب، ولكن فجأة مرضت مارا وماتت، ودُفنت أعلى شيروكاشا… تلك شيروكاشا هناك! إلى اليسار يوجد قبر مارا، يمكنك رؤيته منفرداً وتفصله مسافة عن بقية القبور، على الأغلب تركت تلك المسافة لأن ما من أحد تأكد أن مارا ظلّت مارا بعد الزواج أو صارت فاطمة، لم يتمكن أحد أن يعرف من علي، فقد حوّله الحزن إلى هائم أجوف بعد موت مارا، كل ما قاله أنه يلقي باللوم على كلّ حارة من كوفاتشي إلى شيروكاشا على موتها… بعدها باع المنزل وانتقل إلى فربانيا، تلك هي فربانيا هناك، امتلك عمّه مخبزاً في الحيّ، وعمل علي في المخبز، كان يخبز الليل بطوله ومرّت الليالي وهو ما زال في حداد على عروسته الجميلة، حتى تناقل الناس أن العجينة لم تحتج إلى الملح، فدموع علي كانت كافية.

مع بداية الحرب العالمية الثانية، ذهب علي إلى مقر حزب الأوستاشا، هناك بالقرب من نهر ميلجاكا قبل مدخل سكيندريجا عند شجرتي الحور، سجّل علي اسمه ليلتحق بالأوستاش، وبزغ نجمه هناك بسرعة. اعتاد علي على المشي في المدينة بعينين حمراوتين، وهابه الناس جميعاً، مع أن شكله لم يوحِ بنية لإيذاء أحد.

كان أول ما فعله جيش التحرير الوطني عند دخولهم المدينة، هو إلقاء القبض على علي وسجنه في قبو البنك، هناك بالضبط! أراد قادة الجيش إعدامه، ولكن ومن دون سابق إنذار، ظهر سالمون فينشي، تاجر من بيلافي، وأمضى ثلاثة أيام يقنع الضباط والمسؤولين أن علي من الأوستاشا أنقذ خمس عائلات يهودية عبر إرسالهم إلى موستار ومن هناك إلى إيطاليا.

اقتنع المسؤولون في نهاية الأمر برواية العجوز فينشي وحكموا بالسجن على علي لثلاثة أشهر فقط للحفاظ على هيبتهم. أمضى علي عقوبته في تلك الغابة فوق سكيندريجا، وبعد خروجه من السجن، عاد إلى حالته الأولى، يحزن على وفاة حبيبته في النهار، ويملّح الخبز في الليل… إلى أن وجدوه في أحد الصباحات ميتاً ورأسه في خلّاط العجين… تبيّن أن رأس المسكين علق في الخلّاط طيلة الليل حتى أن العجينة أخذت شكل وجهه. أعاده رفاقه إلى منزل والده في كوفاتشي ودُفن ها هنا.. تحت هذا العشب الذي تقف فوقه بالضبط، حيث يمكنك معرفة خط حياته كلها وإبداء رأيك في شخصه عبر الوقوف هنا فوق قبره.

وحدهم اللصوص والأطفال وأصحاب الأسرار يُدفنون في الأودية، لا حياة في الوديان.. لا يمكنك رؤية أي شيء من هناك.

بينما كنت أحفر قبر سالم بيكاكجيا، والذي قُتل برصاصة قناص، جاءني صحفي أميركي ليجري مقابلة معي، ربما لأنه سمع أنني عشت في كاليفورنيا لفترة، وزرت العالم، وأتحدث أكثر من لغة، وأعرف شخصيات مرموقة. وبما أنني عدت إلى عملي كحفار للقبور، اعتقدَ أنه سيجد الإجابة عندي عمّا حصل لسكان سراييفو، ما علينا، أنا أحفر القبر وهو يمطرني بكل أنواع الأسئلة، يريد معرفة كل شيء كما أخبرني.

  • عن الأحياء أم الأموات؟ سألته.
  • كلاهما.

أشرت بأنه لا يمكن الحديث عن الأحياء والأموات في الوقت عين، فحكاية الأموات انتهت، أما الأحياء لا يعرفون ما ينتظرهم، ولا يستطيعون التنبؤ بما يمكن أن يغيّر حياتهم للأفضل أو للأسوأ. وكما أخبرت الأميركي.. لا يعرف الأحياء أين ستكون قبورهم، في الوادي أو أعلى التلّة، كما لا يعرفون كيف ستكون ذكراهم، هل عاشوا بسعادة أو بشقاء في دار الفناء.

سألني الأميركي أن أشرح له قصدي بدار الفناء! توقفّت عن الحفر ونظرت إليه نظرة بلهاء، فأنا لا أعرف ما معنى دار الفناء بالإنكليزية، فشرحت له أنها الدنيا أو كما قلت له “All over the world”، بالطبع فإن الدنيا بالنسبة لبعض الناس هي المسافة بين حيي ماريجندفور وباسكارسيا، وبالنسبة للبعض الآخر فالدنيا هي خمس قارات وسبعة بحار، في النهاية ستعيش حياتك سعيداً أو تعيساً، مع استحالة وجود خيار ثالث.

هزّ الأميركي رأسه مدعياً الفهم، كان من الواضح أنه لم يفهمني أو لم يهتم بما قلت، ولكن لم أنزعج من ذلك، كل ما يهمني هو أن أتسلى بحديث أثناء حفري للقبر، الوقت يمرّ أسرع بالكلام.

سألني إن كنت نادماً على انتهاء المطاف بي في سراييفو والعيش تحت الحصار بعد أن جلت كل أنحاء العالم، فأجبته:

“سراييفو ليست نهاية المطاف.. هي بداية المطاف، هنا ولدت، والحمدالله أن المطاف لم ينته بي في بقعة أخرى في العالم… من سيتذكرني إن لم يكن قبري في سراييفو؟! من سيحكي عني بنبرة حزينة؟! بالإضافة إلى ذلك، المقابر في العالم، وخصوصاً في أميركا، لا تشبه المقابر في سراييفو… هناك يصفّون القبور بمحاذاة بعضها في صفوف متناسقة وكأن الأموات جنود بزيّهم الرسمي، كما أن شواهد القبور متطابقة في تصميمها، وكأن أرواحهم لها نفس القالب”.

استمر الأميركي بهزّ رأسه، وأخبرته بأنه يستطيع مصارحتي إذا انزعج من حديثي عن المقابر في بلده، فيسألني الأبله إذا كنت مستعداً للموت في سراييفو؟! فكرت بألف طريقة لأحافظ على حياتي، وكل منها يذكّرني بما يسعدني ويمنحني البهجة في حياتي، فلا أحد أكثر سروراً مني وأنا أتفادى القصف لأكون هنا في هذا المكان الجميل أحفر قبراً لأحد التعساء.

أنا على يقين أن الأموات كانوا يحتفلون بحياتهم، وكل ما حدث أنها انتهت، كما تنتهي أي لعبة، تسجّل مئة نقطة لمئة مرة، كان بإمكانك تسجيل المزيد من النقاط، ولكنك لم تفعل… الحياة قيّمة فقط عندما تكون ملكك، أما الموت فلن تجد أحداً استقبله مستعداً، سيأتيك بدون أن تمتلك دليلاً واحداً على أنك عشت.

يسألني الأميركي أن أصف له التغير في وجوه الناس، قلت له لا يمكن لي ذلك، ولكني لاحظت أن الوجوه وبطريقة ما تبدو أكثر جمالاً وإشراقاً، فيسألني: إذاً لمَ يقتل الناس بعضهم بعضاً إن كانوا أكثر إشراقاً؟! عرفت أنه يبحث عن موضوع لمقالته، فهو عاجز عن كتابتها لمعرفته بما ستقول المقالة.

قلت له: “لا تتمعّن في وجوه الناس إن لم تفهم من نظرة”. فكّرت بأن عليه النظر إلى الأشياء كما اعتدت أنا النظر إلى اللوحات الضوئية في أميركا، نظرة عامة أمكنني عبرها تكوين فكرة عن البلد.

أخرجت علبة سجائر من جيبي، “هل ترى هذه العلبة؟” وسألته: “هل تعلم لمَ العلبة بيضاء بكاملها؟”، هزّ رأسه بالنفي.

تابعت: “لأنه لا يوجد أي مكان في البوسنة بإمكانه طباعة الشعار واسم العلامة التجارية. أراهن أنك تفكر الآن… أوه هؤلاء الناس تعساء وفقراء، حتى سجائرهم من دون كتابة! هذا ما تفكر به صحيح؟ هذا لأنك لا تملك أي نظرة للأمور”.

بدأت بتمزيق العلبة، كنت متأكداً أن هناك شيء مطبوع على الغلاف الداخلي، قد يكون الغلاف لعلبة صابون، أو ملصق فيلم سينمائي، أو حتى دعاية ورقية لحذاء ما. شعرت بالفضول لرؤية الغلاف الداخلي، لطالما شعرت بذلك، فهناك دوماً مفاجأة على الغلاف… حتى الأميركي تملكه الفضول، ولكنه لم يكن لديه أدنى فكرة عمّا كنت أقوم به، عندما انتهيت من قلب الغلاف، كانت المفاجأة… إنه غلاف مالبورو، العلامة الأصلية من سراييفو.

بدا الأميركي مذهولاً ومحتاراً، وأنا… والله وكأن القط أكل لساني، فمهما قلت، هو بالتأكيد يفكر الآن: “يا لجنونهم هنا، يقلبون غلاف السجائر، ثم يمزقونه ليعرفوا ما هي العلامة التجارية التي يدخنون سجائرها، في رأيي الناس هنا كعلب السجائر، كل شيء بالمقلوب… أحاديثهم، وتفكيرهم، وأفعالهم”

بعد ذلك، أحسست بالندم على كل فزلكة نطقتها لهذا الأميركي، لماذا لم أكتفِ بالإجابة التقليدية: “نحن أناس تعساء عُزّل نُقتل على أيدي حركة التشيتنيك الوحشية، وهذا ما جعلنا مفجوعين بالحزن.” كان سيكتب ذلك ولانتهت القصة من دون أن أبدو سخيفاً في نظره. في أميركا، يستخدم الناس المصاعد في المقابر، وهذا يعطيك فكرة واضحة عن الأمريكيين.

لو هاجم الصرب بنسلفانيا أو أي مدينة أخرى، بإمكان السكان الاختباء تحت الأرض باستخدام تلك المصاعد بدون أي قلق بشأن القصف أو القتال في الشوارع. في أميركا لن تدرك ما هو المعنى الحقيقي لـ ” مارلبورو سراييفو” عندما تنظر إلى إحدى لوحات الإعلانات بارتفاع خمسين قدماً… لن تفهم التعاسة التي عاشها علي! لماذا أنقذ أولئك اليهود! لماذا أنقذه فينشي! أو كيف التصق وجهه بالعجين في مخبز عمّه في شارع فربانيا… وكل ما يمكنك رؤيته من أي مقبرة.

*****

خاص بأوكسجين


كاتب وشاعر وصحافي بوسني-كرواتي، وُلد في سراييفو عام 1966. تناولت أعماله العديد من الموضوعات المتعلقة بالهوية، الذاكرة، والحروب التي عصفت بيوغوسلافيا السابقة. القصة من مجموعة قصصية له بعنوان "مالبورو سراييفو".