معالجة الزمن في السينما عبر خمسة أفلام
العدد 287 | 23-5-2024
قيس الزبيدي


يُميِّز ليسنغ في “لاواكون” بين الفنون القائمة على التواجد في المكان: الرسم والنحت والعمارة، والفنون القائمة على التواجد في الزمان: الموسيقى والأدب. ويتطلب الفن الزمني، بطبيعته، فترة من الزمن يقوم خلالها بعكس الفنون المكانية التي تتأثر، للوهلة الأولى، بمشكلات الزمن، من هنا انشغل الروائيون بمختلف وجوه الزمن، بعد إدراكهم أن أعراف سرد قصصهم وأساليبها مشدودة إلى الزمن بإحكام. ولم يعد هناك أي كاتب حديث بارز، لم ينشغل بمشكلة الزمن كوسيط بالحياة ومعالجة علاقته كوسيط بالرواية.

يُعد القديس أوغسطين أَوَّل من نَظَّر حول الزمن كخبرة أو فكرة أو شيء حاضر ووجد أن بناء أي تسلسل زمني ذي مغزى، يعلل الماضي بوساطة الذاكرة كشيء معين مضى، ويعلل المستقبل بوساطة التوقع كشيء مُقبل. وتساءل برتراند رسل بدوره: هل الماضي موجود؟ كلا. هل المستقبل موجود؟ كلا.  الموجد هو الحاضر وحده. لكن العلاقات بين الأحداث لا تُشكِّل، ضِمن الذاكرة، ترتيباً موضوعياً متتالياً، بل تعكس- حسب برغسون- حالة من “التداخل الدينامي” في العلاقة بين الزمن والإنسان. لهذا ابتكرت الرواية، ما يسميه توماس مان “الزمن النسبي”.

يُمارس الزمن في الحكاية شكل نظام وتَنتُج وظيفته الدلالية من علاقته الداخلية مع العناصر الأخرى التي تُشكل بنية الفيلم الدرامية. وكما يحافظ زمن السرد على تتابع زمن الأحداث منطقيا، يمكن أيضا أن لا يتقيد منطقيا بتتابع زمن الأحداث. وتنشأ، عندئذ «مفارقة» بين زمن السرد وزمن الحكاية.

وقد نَظمت التقاليد السردية علاقات أساسية، أصبحت تُعرف بالحركات السردية الأربعة وهي:

الخلاصة: سرد أحداث ووقائع جرت في سنوات أو أشهر أو ساعات

الاستراحة: سرد يقطع سيرورة الأحداث والوقائع الزمنية ويعطل حركتها

الحذف: سرد يتجاوز مراحل تتابع القصة

المشهد: سرد يتساوى فيه زمن مشهد القصة الحواري مع زمن القص

وانطلاقاً من سرعة الحكاية وحدودها، يخلص جينيه إلى أن رواية “البحث عن الزمن المفقود” تغطي 44 عاماً في أكثر من ثلاثة آلاف صفحة، فمن صفحة عن دقيقة إلى صفحة عن قرن. ويذكر مندلاو في “الزمن والرواية” تجارب بعض الروايات في سرد زمن: “يمتد حياة كاملة كما عند أرنولد بنيت في “حكاية الزوجات” أو يوم واحد كما عند جيمس جويس في “يولسيس” أو ساعة واحدة كما عند فيليب توينبي في “حفل شاي مع السيدة غودمان” أو حتى أقل من ذلك كما عند هوراس مكّوي في “إنهم يقتلون الجياد أليس كذلك”.

في الواقع لا يتقدم الزمن إلا خطياً من الحاضر إلى المستقبل ولا يمكن عكس حركته، لكن  السينما ابتكرت مستويات مُختلفة، يمكن فيها عكس حركة سير الزمن، بشكل ينشاً فيه انطباع بالعودة إلى الماضي، كما استعملت في الأفلام “تقنيات” مبتكرة للزمن مثل مشهد التوازي أو التزامن أو التَذكُّر أو التَصوِّر أو حتى عن التوقُّع لحدث سيأتي في المستقبل.

لازمة فيلم “التعصب” الزمنية

أنشأ غرِفِث أساس لغة التعبير واكتشف إمكانات الفيلم الفنية وطور مبادئ المونتاج وطرقه: مونتاج الاستمرارية في السرد، وغيّر زمن المسرح الواقعي إلى زمن الفيلم الفني  إضافة إلى أهميته التاريخية في تجريب أساليب السرد الفيلمية. ويعترف إيزنشتين أن السينما السوفيتية تعلمت من فيلم “التعصب” Intolerance  (1916)، وبشكل خاص من مونتاج  التوازي واللقطة الكبيرة،  ومن بناء الزمن الفني في السينما وبنية السرد الفني. يتفق الجميع على أن دافيد وارك غرِفث هو «المعلم الأول» و «أبو الفن» السينمائي في العالم، ومن جعل من المونتاج أساس اللغة السينمائية. ويعد “التعصب” أهم فيلم في تاريخ السينما.

وقد دفع نجاح فيلم “مولد أمة” The Birth of a Nation (1915) غرِفِث إلى إخراج أروع أفلامه وأضخمها على الإطلاق وبلغت تكاليفه مليونين من الدولارات. وقد صور 100 ألف متر من الفيلم الخام – أي ما يساوي 76 ساعة عرض – وبلغ الطول النهائي ما يقرب من ثلاث ساعات عرض.

وهذه «الدراما الشمسية للعصور» كما يقول غرِفِث تتكون من أربعة أجزاء:

“الأم والقانون” دراما حديثة وتدور أحداثها خلال الإضرابات الدموية التي حدثت في أمريكا عام 1911.

“عذاب المسيح”.

“سقوط بابليون” وتدور أحداثه في القرن السادس قبل الميلاد.

 قصة البابلية: سقوط الإمبراطورية البابلية.

 مذبحة يوم القديس بارثولوميو عام 1572 في باريس.

ولا يربط هذه الأجزاء الأربعة سوى لقطة/مشهد كلازمة متكررة لأم تهز مهد طفل.

وعلى حد تعبير غرِفِث نفسه – «تبدأ القصص المختلفة كأربعة جداول مائية ترى من فوق قمة جبل. وفي البداية سوف تجرى الجداول منفصلة وبطيئة. ولكن كلما تقدمت اختلطت بعضها ببعض بسرعة تتزايد شيئا فشيئا حتى تصبح الجداول الأربعة في النهاية سيلاً جارفاً واحداً. وهذه جرأة في التأليف السينمائي لم يسبق لها مثيل. فالقصص الأربع لا تتوالى الواحدة بعد الأخرى، وإنما تتداخل أحداثها. وكل عنصر في قصة يكمل دراميا عنصراً في القصة الأخرى حتى يبدو الفيلم في النهاية يصور موضوعاً  واحداً – فيما وراء حدود التاريخ».

وعلى أرض أخرى بني غرِفِث ديكورات لباريس في القرن السادس عشر. وديكورات لبيت المقدس أيام المسيح. وقد اشترك 60 ألفا من الكومبارس والعمال والممثلين والفنيين في العمل على مدى 22 شهراً هي فترة إنتاج الفيلم.

وفي الخامس من سبتمبر عام 1916 بدأ الفيلم حياته الفنية في نيويورك بدعايات هائلة. واستمر عرضه الأول لمدة 22 أسبوعاً متصلاً. غير أن الجمهور لم يستطع استيعاب ذلك العمل الطليعي الضخم – السابق لعصره بعشرين عاماً في تركيبه الدرامي وتعبيره البصري على السواء – ففشل الفيلم فشلا ً ذريعاً، وخسر أكثر من مليون دولار، التزم غرِفِث – وكان مساهما في الإنتاج – بتغطيتها، وقد أمضى بقية حياته الفنية كلها يدفع الدين الذي ترتب على الفيلم!

ثورة إيزنشتين في “المدرعة بوتيمكين”

ابتكر إيزنشتين في هذا الفيلم الفرق بين زمن السرد الفني وزمن السرد الواقعي وطوَّر توسيع وتطويل الزمن الفني ووظيفة اللقطة الكبيرة في السرد، كما طوَّر أساليب ما يعرف “المونتاج الجدلي في السرد” الذي كان يستند في أفلامه إلى ما يسمى صدام الصور والأفكار إضافة إلى محاولته الناجحة في فيلمه الكلاسيكي العظيم هذا في خلق بنية سرد عضوية لم يجدها في فيلم “التعصب”. ويعد ” المدرعة بوتيمكين” Battleship Potemkin (1925) أيضا أهم إنجاز فيلمي في تاريخ السينما وقد ولَّفه إيزنشتين من حوالي 1346 لقطة رغم أن طوله كان 80 دقيقة ولم تتجاوز بعض لقطاته سوى كادرات “فريمات” قليلة.

في عام 1958 – في بروكسل – أعلنت لجنة تحكيم من مؤرخي السينما في 62 دولة أن فيلم «المدرعة بوتيمكين» هو «أجمل فيلم في العالم». وقبل ذلك بعشر سنوات – عام 1948 – اتفقت آراء النقّاد العالميين كذلك على وضع فيلم «المدرعة بوتيمكين» على رأس قائمة أفضل عشرة أفلام أنتجتها السينما في العالم حتى ذلك التاريخ.

ويدور الفيلم حول حادث واحد وقع سنة 1905 وهو تمرد بحارة «المدرعة بوتيمكين» واندلاع الثورة في الميناء – وقد جاء هذا الحادث في صفحة واحدة من نص السيناريو المكتوب. وتم تصوير الفيلم على هذه الصورة في ستة أسابيع – من نهاية سبتمبر حتى بداية نوفمبر – وقد ارتجل إيزنشتين أغلب أجزائه أثناء التصوير، وانتهى مونتاج الفيلم في صباح يوم عرضه في 21 ديسمبر 1925, في ليلة من ليالي مسرح البولشوي بموسكو. واستقبله الجمهور بحماس بالغ. لم يلبث أن امتد إلى جمهور برلين ولندن وباريس وكل العواصم حتى القاهرة. حيث عرض (بعد إنتاجه بنحو أربعين سنة).

“الظهيرة” حين تطابق زمن الفيلم مع الزمن الواقعي

الظهيرة هي منتصف النهار، أي الوقت الذي تقع فيه الشمس علی خط تحول حاسم في دورتها. وتسمية الفيلم بـ “الظهيرة” High Noon (1952)- في الألمانية عنوان الفيلم “الثانية عشرة ظهراً” – هو أمر متناغم مع التحول الحاسم في حياة بطل الفيلم، ففي آخر يوم عمل للشريف كين في بلدة “هادليفايل” الصغيرة سيضطر لمواجه القاتل فرانك ميلر، الذي كان قد ألقى القبض عليه وأودعه السجن قبل سنوات، وقد وصلت برقية حين كان الشريف يحتفل بزفافه ويتهيأ مع عروسه لمغادرة البلدة، تبين أنه تم العفو عنه، وأنه في طريقه الى البلدة لينتقم من الشريف، بينما يتجمع لانتظاره في محطة القطار ثلاثة من أفراد عصابته.

وعلى الرغم من أن بمقدور كين مغادرة البلدة إلى مستقبل آمن مع زوجته بعد وصول البرقية، إلا أن كرامته وشرفه يدفعانه للعودة إلى منصبه كشريف، وليختار في الصراع بين سعادته الخاصة وبين الدفاع عن القانون والنظام والحرية كقيمٍ عليا. وإذ تذهب جهوده في حث أهالي البلدة من أجل مساعدته في التصدي للعصابة عبثاً، لدرجة أن زوجته تتركه وحيداً أيضا بحكم قناعتها الدينية، فهي من أتباع “الكويكرز”، وهي مجموعة من المسيحيين البروتستانت لا تؤمن بالعنف.

وهكذا تخذل البلدة شريفها كين ويبقى وحيداً في مواجهته المصيرية مع القاتل وعصابته. وغالباً ما تم تفسير الموقف الجبان من مواطني البلدة في الفيلم كأمثولة بوصفه انتقاداً موجها للمرحلة المكارثية المعادية للشيوعية التي سادت هوليوود.

يحتفي الفيلم بحالة نمطية لنضال شاق لفرد واحد ضد قوة غاشمة، ويصور لحظة زمن مصيرية قاسية، أي لحظة وصول قطار يحمل القاتل الذي تنتظره عصابته لينتقم من الشريف الذي أودعه السجن.  ويتطابق زمن الفيلم مع الزمن الواقعي فأحداثه تجري خلال 84 دقيقة وزمن الفيلم هو أيضا 84 دقيقة، وخلال الوقت يتم مونتاجياً إدخال مكرر لساعة كبيرة تعبّر عن التهديد والوعيد المتوقع.

“اركضي يا لولا اركضي” مبدأ الزمن في الذروة الدرامية

يعد فيلم المخرج الألماني توم تيكفير “اركضي لولا اركضيRun Lola Run (1998) سردا سينمائيا حول حكاية بسيطة. ماني شاب في مقتبل العمر يعمل على نقل أموال لمهربي الماس ترك في المترو بتصرف أحمق حقيبة فيها 100 ألف مارك جراء هربه خوفاً من حصول تفتيش من قبل رجال الشرطة.

يبدأ الحدث درامي حين تتلقى لولا اتصالاً هاتفياً من صديقها ماني، يخبرها فيه أنه فقد الحقيبة وأنه إذا لم يدبر المبلغ فإنه سيقتل على يد العصابة، وهكذا فإنه يتوجب على لولا أن تدبر المبلغ خلال 20 دقيقة وإلا سيقوم هو نفسه بالسطو على المبلغ من سوبر ماركت كبير على مقربة من مكان مقصورة الهاتف التي خابرها منها.

على صديقته لولا إذن أن تساعده. إنها مهمة نبيلة! لكن ماذا سيحصل إذا لا تستطع أن تؤمن المال الضروري. مهمة لولا نبيلة لكن الوقت من ذهب!

يُسرد الحدث، بعد الاستهلال، ثلاث مرات بحبكة متشابهة ومختلفة تقريباً وفقا لمبدأ الاحتمال، في كل “ابيسود” أو حلقة زمنها عشرون دقيقة، في محاولة إنقاذ حبيبها المتورط. هذا ويتشابه “اركضي يا لولا اركضي” مع فيلم كيروساوا “راشومون” أي تنويعات لحكاية/قصة واحدة، لكن فيلم “لولا” يخضع لمبدأ مونتاج “الاحتمال” في السرد الفني الزمني: ماذا لو أو ماذا إذا، عندئذ! ورغم أن الفيلم يستخدم عناصر مختلفة في مونتاجيته الاستمرارية كـ الأنيماشن، لكنه لا يفقد خيوط حكايته الدرامية، بل يخضعها لفكرة مبدأ الزمن ودوره الحاسم في بناء ذروته الدرامية.

حياة او موت: فيلم عربي ريادي بطله الحقيقي هو الزمن

يحكي فيلم كمال الشيخ “حياة أو موت” (1954) عن موظف يتوقف عن العمل بسبب مرض قلب يعاني منه. وبعد ملابسات تتعلق بتأخير مكافأة العيد واصطدام يحصل مع زوجته، بحيث تغادر غاضبة البيت مع ابنتها إلى بيت أهلها. لكن الابنة تعود لكي لا تترك والدها وحيداً.

يصاب الأب بأزمة فيضطر إلى إرسال الابنة لتجلب له الدواء الذي يتعاطاه يومياً من صيدلية قريبة، لكنها تكون مقفلة. فتضطر الى الذهاب إلى صيدلية تفتح دائما في منطقة “العتبة” البعيدة.

بعد أن تأخذ الدواء يكتشف الصيدلي أنه أخطأ في تركيب نسبة السم في الوصفة الطبية!

هل يجد الصيدلي عنوانِ الضحية؟ وهل تصل البنت ويتناول عندها الأب السم؟

يبدأ الفيلم في لقطة كبيرة لساعة تشير إلى حوالي الحادية عشر وربع يتزامن مع حركة رقاص الساعة شمالا ويمينا صوت “فويس أوفر” أن حياتنا كهذه الساعة التي لا تكف عن الدوران ونحن لا نعرف أبداً ما تحمله اللحظة القادمة: يأس أو رجاء؟ حياة أم موت؟

يبادر الصيدلي عملية البحث عن عنوان المريض، لكن عبثاً! ويستنجد بحكمدارية القاهرة في البحث لإنقاذ المريض قبل أن يتعاطى الدواء القاتل أثناء ما تكون الحكمدارية مستنفرة في البحث عن مجرم خطير؟

يستغل المخرج شوارع القاهرة قبل حلول العيد ويوسع “مكان” حدثه التمثيلي في أهم المناطق في قلب المدينة في حبكة مونتاجية: إيقاع فيلمي متناوب ومتواز مبتكر، يجمع بين التشويق وإثارة الفضول والتوقعات يحترم المكان الواقعي ويحافظ على زمن أحداثه ويكشف طبيعة ناسه المختلفة ليزيد من حبكة بنية حكايته اليومية البسيطة وفق تعقيدات درامية وميلودرامية جانبية مثيرة.

ويمكن القول أن كمال الشيخ أنجز في فيلمه الريادي حقا سمات يسميها بول ريكور وساطة تنسجها الحبكة بين أحداث متوافقة لا توجد دون تنافر وآلية التوافق بين التعاقب الزمني الواقعي والمعالجة التصويرية.

البطل هو الساعة/ الزمن، ولولا والشريف كين والصيدلي خصوم يصارعون الزمن: الشريف كين يحاول أن ينقذ مصير بلدة خذلته، بينما لولا حبيبة تحاول أن تنقذ حبيبها المتورط، والصيدلي يسعى إلى إنقاذ مريض من تعاطي سم قاتل.

*****

خاص بأوكسجين


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."