لعل من يعرفون حنا مينة عن قرب لا يعرفون له علاقة بالسينما إلا عبر نقل بعض أعماله الروائية إلى السينما في سورية وهي أربعة أعمال أدبية: “اليازرلي” عن قصة “على الأكياس” القصيرة، و”بقايا صور” عن رواية بنفس العنوان، و”الشمس في يوم غائم” أيضاً عن رواية بنفس العنوان، و”آه يا بحر” عن روايته “الدقل”، لكن حنا مينة اقترب كثيراً من السينما وجرّب مرة حتى الكتابة المباشرة للسينما.
لسنوات كان الكاتب يشارك في “اللجنة الفكرية” في المؤسسة العامة للسينما /ربما من عام 1970 إلى عام 1974/ وهي سنوات حافلة في تاريخ السينما السورية. وكانت مهمة هذه اللجنة قراءة النصوص الأدبية السينمائية ودراستها، ومن ثم الموافقة عليها لدَرْجها في خطة إنتاج المؤسسة، كما كانت أول محاولة له لكتابة قصة سينمائية من قصص ثلاثية فيلم “رجال تحت الشمس” الفيلم الأول للسينما الجديدة في سوريا، وانطباعي المباشر عن علاقة الكاتب بالسينما بأنها لم تكن علاقة سهلة. وأذكر مرة أنه شاهد في النادي السينمائي بدمشق وفي صالة الكندي فيلم “عناقيد الغضب” لجون فورد عن رواية للكاتب الأمريكي جون شتاينبك، غير أنه غادر القاعة في الاستراحة لأن الفيلم لم يعجبه كما أعجبته الرواية العظيمة. وأنا شخصياً لا أعتقد أن حنا مينة أُعجب حقاً بأي من الأعمال السينمائية التي تم اقتباسها عن أعماله الروائية.
من هنا أستطيع أن “أفترض” أن الكاتب الكبير لم يكن ليعجب بفيلم “الياطر” لو قدر لهذا الفيلم أن يُنجز أيضاً.
أذكر إعجابه الشديد بالسيناريو الذي كتبته عن رواية “الياطر” وقتها قال لي ما معناه أنه لو كان شخصياً يجيد كتابة السيناريو لما استطاع أن يكتبه بشكل أفضل. وقد استطعت أن أجد في إعجابه عزائي المنشود. بعد أن لمست عدم رضاه أو إعجابه بفيلم “اليازرلي” الذي حينما شاهده في عرضه الخاص الأول ذهب دون كلام.. وأذكر هنا أنه تابع كتابة معالجته في “اللجنة الفكرية” ووافق أيضاً على السيناريو الأدبي واقترح عليّ في صفحتين إضافات واقتراحات أخذت بها كلها في الديكوباج أي: في نص التصوير والإخراج، ولا زلت أحتفظ بالصفحتين المكتوبتين بخط يده.
أين تكمن المشكلة؟
ليس بوسعي أن أتحدث الآن عن الأفلام الأخرى.
لكن يمكنني أن أتحدث عن فيلم “اليازرلي” وقد تحدث عنه آخرون كما تحدثت أنا عنه بعض المرات، وانصب فحوى أغلب الحديث عن إشكالية العلاقة بين الأدب والسينما، بين الرواية أو القصة وبين الفيلم.
“اليازرلي” يشكل حالة خاصة وفريدة في السينما السورية – الفيلم أنتج عام 1974- فهو من جهة فيلم تجريبي كما أنه من جهة أخرى، فيلم أستحق العقاب “اللازم” به، ليس فقط لأنه محاولة شكلية جديدة فحسب، بل لأنه احتوى على مشاهد أيروتيكية* مستمدة من أدب حنا مينة الجميل. ومن يقرأ “الياطر” مثلاً يكتشف زخم الابتهاج الأيروتيكي البريء الذي ينسبه الكاتب إلى شخصية زكريا المثيرة.
ولعل من حقي هنا – وأنا أقترب من هذه (“الإشكالية”/رواية- فيلم) والتي هي برأيي سبب عدم الرضى “المرتجى” عند أغلب أولئك الكتاب الذين تم تحويل رواياتهم أو قصصهم إلى السينما لأنهم ببساطة، لم يتعرفوا على صورة عالمهم على الشاشة – من حقي أن أعرف بقصة على الأكياس[1] مدار معالجة الفيلم.
والقصة تبدأ في مساء من الأماسي المتشابهة، حينما لم يرجع الأب بائع “المشبك” من قرى اسكندرون إلى بيته وإلى عائلته الفقيرة الجائعة التي انتظرته طويلاً،كما كانت تفعل دائماً. وقد قامت الأم بنفخ روح الأمل في أفراد العائلة، الشقيقات الثلاث والصبي الصغير – لأنها كانت ترجو عودة الأب مهما تأخر- إلا أن الصبي التلميذ الناجح في دراسته، لم يعد يطيق مثل هذا الانتظار الدائم لعودة الأب، وقرر: “هذه الليلة وقبل أن أغفو، قررت فعل شيء لأجل الأم والعائلة وفكرت أن أعمل أجيراً في أي مكان”، وإذ لم يعد الوالد ليلتها، ذهب الصبي بصحبة أصدقائه من أولاد الحارة الذين كانوا يعملون عند رئيس المستودع “اليازرلي” على البحر وكان عملهم ينحصر في دفع عربات الحديد الصغيرة المحملة بأكياس الحبوب والقمح من “العنبر” إلى الصقالات الممتدة في البحر، حيث يتم تحميلها في البواخر.
وهناك تعرف الصبي على “اليازرلي” الذي سمع عنه أشياء كثيرة ومثيرة، ولم يكن اللقاء سهلاً، إلا أن صديقه الشاطر، الذي يسعى لتشغيله مع بقية الأولاد، يتشاجر مع اليازرلي ويهدده بالتوقف عن العمل إذا لم يوافق على تشغيله