يسعى هذا المقال إلى قراءة المجموعة القصصية الصادرة أخيراً ضمن سلسلة روايات الهلال للكاتب المصري الفرانكوفوني ألبير قصيري (1913 – 2008)، لكن وقبل المضي مع الكتاب فإن مروراً على عوالم قصيري ودنياه سيكون أمراً واجباً، بوصفه “فيلسوف الكسل” وكاتباً بعيداً عن أن يصف نفسه بالروائي “أنا كاتب، ولست روائياً. لا أكتب كي أروي قصصاً، لكن لأقول ما أعتقده. الشخصيات هنا تعبر عن أفكاري. أحب بعد أن تقرأ كتبي ألا يذهب الناس إلى أعمالهم في اليوم التالي، أن يفهموا أن طموح الحياة يكفي، ولا يساويه أي توق إلى غيره. لقد نجحت أن أقول كل شيء في كتبي”.
لقصيري سبع روايات صدرت في فرنسا، منها “شحاذون ونبلاء” 1955 و”العنف والسخرية” 1962 وكلاهما اقتبستهما المخرجة المصرية الراحلة أسماء البكري في فيلمين مميزين، هذا عدا عن مجموعة شعرية بعنوان “لسعات” 1931 نشره في القاهرة كما هي مجموعة “بشر نسيهم الله” القصصية التي نشرها في القاهرة أيضاً عام 1941، طبعاً هي جميعاً مكتوبة بالفرنسية قدّم فيها “نسيج المجتمع المصري في شكل ساخر مدهش. وهذا ما لفت نظر هنري ميلر إليه ودعاه للمجيء إلى باريس التي استقر فيها عام 1945.”
قبل أن أواصل فإن علي توضيح أمر هام يتمثل بأنني أصبت بالكسل أيضاً مع أنني لم أنم لأكثر من ثلاث ساعات ليلاً بينما كان قصيري ينام تقريب الثالثة بعد منتصف الليل ويستيقظ في الثانية أو الثالثة ظهراً، على أن أستعيد نشاطي مع عرضي لمجموعة “بشر نسيهم الله”..أعدكم بذلك! ولحينه فإنني سأستعين بالملف الذي نشرته “أخبار الأدب” حين وفاة قصيري عام 2008 وقد حمل ترجمة لمقالة عنه في “ليبراسيون” ولقاء أجري معه في “لومجازين ليترير” عام 2000.
اختار قصيري العيش في غرفة رقم 58 في فندق “لا لويزيان” في شارع “السين” في “حي سان جيرمان دي بريه” “فالفتيات جميلات والفندق ليس غالياً والأفراح مستديمة. لم يفكر في الرحيل مطلقاً ومكث وهذا كل شيء”، ويقول قصيري أيضاً “لهوت كثيرا في حياتي (..) عندما كان أصدقائي الرسامين والنحاتين يمنحونني أعمالهم، كانوا يعلمون أنني سأبيعها في اليوم التالي لكي أدفع إيجار الفندق أو لأبتاع سجائري. وأحب النساء. لم أستطع أبداً الاستغناء عن رفقتهن. يأتين، ويذهبن، لم يكن عندي ما يزعجني معهن.”
“لم يكن غنياً وإنما حري بكرم أصدقائه من حقوق نشر كتبه. فالملكية في نظره ليست فقط السرقة وإنما أيضا السجن والعبودية للمالك. وكان يكتب جملة كل أسبوعين وهكذا فلم يكن كسولاً تماماً ؟! فكل كلمة يكتبها عمل على صياغتها جيدا، أعطاها وقتها ليصبح راضيا عنها. كان الهم الأكبر لقصيري هو أن يلحن اللغة العربية في اللغة الفرنسية. قصيري كاتب طريف يفكر بالعربية ويكتب بالفرنسية”.
أستعيد نشاطي الآن وأنقض على قصص ألبير قصيري، وقد كانت قراءتها اكتشافاً كما كل كتاب له، وهو يضيء على عوالم قصصية ينعدم فيها الخط الفاصل بين الواقع والخيال، تارة بسريالية وتارة أخرى في تتبع للبؤس وما يفرزه من أفكار ومعتقدات وتطلعات، ولعلي سأبدأ من ثاني القصص ومن هاجس دائماً ما يراودني متعلق بالحنين الذي يطالعنا كلما عاد أحدهم في الزمن إلى ما يعرف بـ “الزمن الجميل”، والذي يمكن أن تكون عليه السينما المصرية حيث كل ما نشاهده جميل ووردي، لكن ذلك كان يخبئ الكثير خلفه وخارج الكادر، حيث تتواجد عوالم وشخوص قصيري في قصصه “بشر نسيهم الله”، وبعيداً عن الله فإن المجتمع والحياة في تلك الفترة تتبدى للمشاهدين وتحديداً في أيامنا هذه دعوة للعودة في الزمن إن أمكن وأقتبس هذا المقطع من “الحلاق يقتل زوجته”: “كانت المدينة تذخر بحشد من المخلوقات، التي لم يكن بينها أي شيء مشترك مع هذا الاضطراب وهذه الأضواء. كانوا يمرون بالقرب من كل هذه الأضواء كظلال خائفة. ينظرون لكل هذه الأشياء الجميلة في المدينة بعيون حيوانية غير واعية. يحملون معهم أحياءهم الموحلة وبؤسهم القذر. يرون كجروح. كنا نطردهم، لكنهم أصروا على البقاء . لابد أن سبباً كافياً وقوياً جذبهم لهذا المكان المسوّر السحري: الجوع. إنه الأمر الذي كانوا يفهمونه جيداً. كانوا كثيرين حول المطاعم، من كل الجهات حيث يأكل الناس. بالنسبة لهم الطعام يمثل كل شيء. لا يشتهون أي شيء آخر. منذ عدة أجيال ليس لديهم أي رغبات أخر، إنهم أجساد حقيرة بلا روح. كانت المدينة تتألم من وجودهم الحضارة تتألم من رؤيتهم”.
طبعاً هؤلاء هم من كانوا مطرودين من جنة السينما والمشهد العام المتسبب بموجات الحنين الجارفة التي يصاب بها الإنسان العربي وهو يستعيد بهاء الملكية، هذا مع معرفة أن ثلاثة أرباع سكان مصر في تلك الأيام (الثلاثينيات وبداية الأربعينيات) كانوا يعيشون على الزراعة، هذا مغر بالاستطراد لكن هذا مدعاة أيضاً للتأكيد أن انشغالات قصيري في مجموعته هذه وبمجمل أدبه متمركزة حول هؤلاء المستبعدين المسحوقين، الشحاذون لكن النبلاء، بتساؤل ابن شاكتور السمكري “لماذا نحن فقراء” وقد أحضر البرسيم لخروف العيد الذي من المستحيل أن يتمكن والده من شرائه، وهو يقول في “الحلاق يقتل زوجته” “ويل للفقير الذي لديه أوقات فراغ”، بينما ينشغل شاكتور بالدافع وراء إقدام الحلاق على قتل زوجته، وتمرد كناسي الشوارع وهو يقول بأن ذلك مؤشر على أن شيئاً سيحدث، شيء يجهله ونجهله تماماً.
بينما تخلق قصة “خطر الفنتازيا” عوالم عجيبة تتمثل بصراع الواقع مع الفنتازيا من خلال أفكار “المثقف الجاد” بخصوص التسول وهو يعلي من التعاطف بدل الشفقة ونقاشه مع معلم التسول أبو شاوالي الذي لديه مدرسة خاصة لتعليم التسول في الحي الذي ينزلق فيه المرء جراء برك البول اللانهائية، وهو مؤرق بآراء هذا المثقف “الرحمة عاطفة ميتة، ومن ثم لم نعد ننتظر أدنى مساعدة، من الآن فصاعداً لا يجب أن يثير الفقراء الشفقة لكن التعاطف، فالتعاطف عاطفة لا تزال غير مستغلة من الطبقة المتسولة..”
في حي “السيدة الحامل” سنشهد أحداث قصة ” ساعي البريد ينتقم”، هذا الانتقام الذي سيأتي تصاعدياً وفق تحولات زوبا (ساعي البريد) وهو يسلم المكوجي حنفي رسالة تبلغه أنه لم يسدد إيجار محله لستة أشهر، ساعي البريد الذي “بدأ يرتدي نظارة لا لشيء إلا للشعور بالتفوق”، حنفي “يتخلى عن النوم يدخل إلى الحركة كأمر وجيز وبلا قيمة” ومحله لا شيء فيه، هو مخصص لجلسات الحشيش، وليس أمامه لسداد إيجاره المتراكم سوى أن يقوم بضرب زوجته فتعطيه حماته المبلغ ليتوقف عن ذلك.
انتقام ساعي البريد سيكون تحولاً في شخصية الساعي، انقلاباً درامياً يمهد له قصيري بالحرص على الإضاءة على ما يعتمل في دواخله من شعور بالتفوق على أهالي الحي الغارقين بالكسل والحشيش والفقر، فهو الوحيد الذي يعرف القراءة، وهكذا فإنه سيكون العارف بكل أسرار الحي من اطّلاعه على الرسائل، وصولاً إلى أن يمسي نبياً لكن غير أمّي كما ستهبط عليه لحظة من جنون العظمة يقول فيها “أعرف أنكم موتى.. أعمل على بعثكم للحياة من جديد. لقد كان يلزمني صبر هائل، صبر هائل جداً، يا حنفي، يا أخي. لأنكم موتى منذ قرون خلت. آه! لن تعرفوا أبدا كل معاناتي. لكن الله هو من أرسلني إليكم. لإعادتكم للحياة مرة أخرى، لانتشالكم من هذا الجهل. لأنكم لستم فقط موتى، بل أيضاً عبيد مصيركم، راضون، وتائهون بلا عودة!”.
عنوان الكتاب: بشر نسيهم الله
المؤلف: ألبير قصيري
ترجمة: لطفي السيد
إصدار: سلسلة روايات الهلال 2015
حجم الكتاب: 125 صفحة من القطع الصغير