يواصل الناقد والمخرج قيس الزبيدي تقديم حلقات خاصة بكتابة سيناريو الفيلم السينمائي، وها هي الحلقة الخامسة حيث يتناول السيناريو الأدبي:
فسر سان أوغسطين في أولى نظريات العلامة: العلامة هي نشئ يحضر إلى الفكر شيئاً ما آخر. ويعد السيناريو الأدبي -حسب بازوليني- نقطة تلاقي بين الأدب والسينما حيث تقوم الكلمة بدور وحدة لغوية علامة، وظيفتها إحلال شيء بدل شيء آخر وينفصل “دال” العلامة عن مدلوله: كلمة/ شيء. أما العلامة البصرية فيتشابه فيها “دال” العلامة مع مدلوله ويتطابق فيها الدال و المدلول: العلامة البصرية/ مظهر الشيء.
وتوجد حسب تشارلز بيرس، ثلاثة أنواع من العلامات: الأيقونة ICON والقرينة INDEX والرمز SYMBOL . وبما إن أي علامة تتكون من الدال والمدلول والمرجع أو الشيء فإن ما يحدد طبيعتها، هو العلاقة بين هذه العناصر، فإذا ما قامت العلاقة على التشابه، صورة فوتوغرافية لحصان، تكون العلامة أيقونية، أما إذا قامت العلاقة على التفاعل، ارتباط الدخان بالنار، تكون العلامة قرينة وإذا ما كانت العلاقة إرادية «اتفاق ثقافي»، السلحفاة تدل على البطء، والثور شعار القوة، تكون العلاقة رمزية.
ومع أن العلامة السائدة في السينما هي الأيقونة إلا أن قدرة الأيقونة في السينما على التحول إلى علامة أخرى، قرينة أو رمز: الدخان مثلاً، يمكن أن يدل على مدلول غير مرئي: النار. وحينما تستند العلامة “الأيقونة”إلى عرف ثقافي متداول، “حمامة بيضاء” تدل على السلام، عندها تتحول العلامة إلى علامة “رمز”.
يصنع هذا الاختلاف الأول في العلاقة بين الدال والمدلول، أول إشكالية في عملية تحويل المنتوج الأدبي إلى منتوج بصري، أي سرد الحكاية من جديد وفقاً لنظام علامات مختلفة. فالعلامة «الكلمية» تأخذ في السيناريو خاصية جديدة، تنتج من إرادة الشكل ذاته في تحول بنيته إلى بنية أخرى، حيث تتحول فيها وحدته، الكلمة، من مفهوم مجرد إلى مدرك حسّي: علامة أيقونية تخلق معناها الخاص. فالكلمة علامة معجمية، يسبق وجودها النص الأدبي، أما العلامة البصرية فوجودها يُبتكر خلال إنجاز العملية الفنية الخاصة.
السيناريو الأدبي كتابة بصرية/سمعية في بنية درامية لحكاية تروى، بالدرجة الأولى بوساطة الصور ويتضمن الوصف الخالص للفعل والأحداث، فالفيلم أصبح بعد مرحلة السينما الناطقة، يأخذ أهمية إضافية، فلم يعد الحوار وحده يكتب، إنما قبل كل شيء أصبحت علاقته المناسبة مع الصورة هي الأساس. وبالتالي يجب أن يوصف كل ما يصاحب الفعل من تعبير وحوار ومؤثرات وموسيقا، يمثل كل ما سيراه المشاهد على الشاشة وكل ما سيسمع لكن أن لا يتضمن أي معلومات تقنية أو أي إرشادات إخراجية لأن الانشغال بالتقنيات هي مهمة كتابة الديكوباج الفيلمية لمرحلة التصوير.
تبقى العلاقة بين الأجزاء والكل المسألة الحاسمة في بنية السيناريو الدرامية التي هي ترتيب تخطيطي لحوادث ووقائع وأحداث يرتبط بعضها بالبعض الآخر وتقود إلى الحل الدرامي. إن السرد السينمائي خطاب منظم بوساطة أشياء محسوسة، بهدف سرد قصة درامية تفترض وجود مستويات درامية تتطور في زمن السرد المحدود. ويقوم كل ذلك على المبدأ الذي اكتشفه أرسطو في الدراما اليونانية ووضعه قبل أكثر من ألفين سنة. ورغم أن المفاهيم والمصطلحات، التي أوردها أرسطو في كتابه “فن الشعر” كانت تتغير، لكن تتشابه، في الجوهر مع مفاهيم ومصطلحات بنية الدراما اليونانية. وليس الهدف من معرفة المبادئ الدراموتورغية أن نخضع لها كأوامر أو أحكام بل، لأنها تجارب قيمة يمكن الاستعانة يها. فابتكار أي حكاية هو خلق حر غير ملزم وخلق عقلي لا يقدّر، لكن طريقة بناءها الدرامي يمكن أن تحسب بدقة متناهية.
هنالك دائماً بداية ووسط ونهاية و”موضع” محدد تنتقل فيه البداية إلى الوسط، والوسط إلى النهاية: استهلال ومواجهة وحل، وهو ما يصل بين الحكايات جميعها، سواء ما كان منها قائم على خرافات أو أساطير أو ملحمة أو مسرحيات أو روايات أو أفلام – كل شيء كُتِبَ أو مُثِّل كما يقال منذ بداية ابتكار الحكايات.
تتكون الحكاية من مجموعة أحداث تقع أو يقوم بها اشخاص تربطهم علاقات وتحفزهم إلى فعل ما يفعلون وفقا لمنطق درامي يجعل وقوع بعضها حافزاً لوقوع أحداث أخرى بدءاً من وضع لشخصية مستقر/ يتغير إلى وضع غير مستقر ينشأ منه خلل/ ثم تجهد الشخصية، عن طريق الصراع، في أن تعيد وضعها المستقر وتتجاوز الخلل، لكن بنوعية أخرى، ينشا منها مغزى الفيلم العام. ويخضع تطور الحكاية إلى تنظيم عناصر بنيتها الدرامية وترتيب سردها في فصول ثلاثة وفق عناصر العرض الدرامي: الحكاية/الشخصيات/ الحبكة/ الصراع/ الأحداث/الحوار/ الذروة/ الخاتمة.
وبالإمكان تحليل هذه العناصر والبرهنة عليها، لأن عزل كل عنصر لا يتم ذهنياً إلا من أجل فهم أفضل لوظيفته ولدوره المُميَّز في بنية السيناريو الأدبية مع الأخذ بنظر الاعتبار أن مشاكل كل نص سيناريو تكون مختلفة.