“حارس البوابة” .. خطوة كاثوليكية في درب الماركسية
العدد 216 | 19 تموز 2017
زياد عبدالله


تبدو العادة الأسيرة لدى بعض القراء ما لم أقل الغالبية العظمى منهم في وضع خطوط تحت مقاطع أو عبارات تنال إعجابهم أثناء قراءتهم لكتاب، أمراً عسيراً مع كتاب المفكّر والناقد الأدبي الانجليزي تيري إيغلتُن “حارس البوابة” (ترجمة: أسامة منزلجي. إصدار دار المدى 2015)، ذلك أن القارئ سيكون مضطراً إلى وضع خطوط تحت ثلاثة أرباع الكتاب، وربما كله! بما يجعل الأمر عبثياً مثلما حصل معي حين وجدت نفسي أضع الخط تلو الآخر إلى أن عدلت عن ذلك.

أجد هذه العادة وسيلة لاستعادة الكتاب بعد الفروغ من قراءته من خلال تقليبه وقراءة المقاطع المشار إليها بخطوط، إلا أن ذلك لن ينجح مع كتاب ايغلتن طالما أن العميلة تشمل كامل الكتاب.

ومن يعرف المنتوج الفكري لايغلتن فإنه بالتأكيد لن يتوقع أن تكون مذكراته مذكرات بالمعنى التسجيلي أو الاستعادي فقط، بل هي رحلة فكرية استثنائية محمّلة بشحنة استثنائية في نبش الأفكار والمنابع والمنطلقات التي تأسست عليها مسيرته الفكرية، “اللا سيرة ذاتية لا تعني فقط ألا تكتب سيرتك الذاتية وهي ممارسة متفشية بصورة مدهشة، بل أن تكتبها بطريقة تفوق في براعتها تلهف وادعاء ذلك الجنس وذلك باحباط رغبتك في استعراض ذاتك ورغبة القارئ في ولوج حياتك الداخلية” وليكون هذا توصيف دقيق أيضاً لنصف كتاب إيغلتن. إذ يشكل الشخصي في الكتاب منطلقاً لرصد التحول الفكري الجوهري لإيغلتن من كاثوليكي إلى ماركسي مثلاً، إلا أنه سيكون ثانوياً أمام الفيض النقدي الذي يحفل به في الفصول الأولى من الكتاب، حيث ستهيمن المشهدية المترافقة مع الأفكار والاستعارات “كن راهبات بطراز حديث ليس لهن مظهر حيوان البطريق، ونصيرات لرموش العيون الاصطناعية وتشي غيفارا، ومملوءات بحكمة العلاج النفسي وبالحماس الأميركي المُتعب. بدا كأنه لا يوجد شيء لا يجدنه إيجابياً بصورة مبهجة، بدءاً من كتلة من الشعر المُلبّد في البالوعة وانتهاء بمركز الدولاب الصدئ..”

تشكّل الكاثوليكية في أول فصلين من الكتاب “المؤبدّات” و”الكاثوليكيون” كشّاف أفكار هائل، سواء في نبشها والحفر عميقاً في جوهرها بناء على تجربة إيغلتن نفسه (كاثوليكي النشأة) “وكما أن الدير لم تكن له إلا صلة واهية بالواقع، كذلك الأمر مع الكاثوليكية في العموم. بدا أن مذاهبها السرية لم تعد قابلة للتطبيق في الحياة اليومية أكثر من قدرة علم المثلثات على كي بنطلونك. وكالسحر، كان نظاماً عالي التحديد لكنه يشدد على الذات بشكل تام، مع كل الصفاء الاستثنائي للهلوسة..” أو مقاربتها على مستويات متعددة لكن في وضعها ضمن السياق الفكري لإيغلتن نفسه وهو يعتبر أن “الكاثوليكين هم المرشحون الأوائل لليسار السياسي. إنهم في المعتاد، على الأقل في بريطانيا، من جماعة المهاجرين من الطبقة العاملة، وتعلموا أن يقدّروا الفكر المتماسك، وأن يشعروا بالارتياح مع الأبعاد الرمزية، الجمعية، للوجود الإنساني..” وليورد أيضاً أن “الكاثوليكيين يميلون نحو اليسار بسبب مقتهم الغريزي لليبرالية..”

ستبدو هذه الاقتباسات مبتورة ومجتزأة في هذه القراءة على نحو مشابه لما سبق ذكره بخصوص وضع خطوط على المقاطع الهامة، فالأفكار التي يخلص إليه إيغلتن وفق مسار حياته تخرج في ظل عصف فكري لا يتوقف إلا ليواصل، وليكون هذا العصف جدلياً دلكتيكياً، ينتهي على الصعيد الكاثوليكي مع عدوله عن المضي أكثر في حياة الأديرة وهو في الثالثة عشرة من عمره، ولينتقل بعد ذلك عبر فصول متوالية إلى الفكري من خلال استعراضه لعدد من الشخصيات الفكرية والأدبية “إن بعضاً من أشد المفكرين إبداعاً كانوا أولئك الذين أقروا بزيف العقل وكشفوا عنها بإيماءة واحدة”، وهنا سيخصص صاحب “فكرة الثقافة” مساحة كبيرة عن لودفيغ فيتغنشتاين بوصفه فيلسوفاً مضاداً للفلسفة الكلاسيكية، وعن برتولد بريشت “الماركسي لكن خارج القطيع”.

ويروي إيغلتن في فصله المعنون “سياسيون” قصة رفض انتسابه إلى حزب العمال “كانت تجربة شائنة جداً، كالقتال بضراوة لشق طريقك للصعود إلى متن التايتانك، أو كأنك وجدت نفسك ترتدي زي الفايكنغ في حفل يرتدي فيه الناس كلهم ملابس السهرة الرسمية.” ولينتقل بعد ذلك إلى استعراض تجاربه السياسية الأخرى و”الانقسام” الذي “كان طبيعة ثانية لأقصى اليسار”، وتناوله إصابة الطبقة العاملة تحت تأثير الرأسمالية “بالانحراف والتهاب المفاصل”.

يضيء صاحب “أوهام ما بعد الحداثة” في الفصل المعنون “فاشلون” على حياته في كنف أسرته (مع هذا الفصل سيحضر السيّري أكثر فأكثر) وفيما يلي استسلم لاقتباسات متوالية “لم تكن أسرتنا من النوع الذي يمكن للمرء فيها أن يفعل أي شيء دون مغزى، إلا إذا أُدرِجت الصلاة في هذه الفئة.” ويقول أيضاً كونه ينتسب إلى عائلة فقيرة من الطبقة العاملة “إن الفقر ليس أفضل مدرسة لتعلم تذوق الأشياء التي فينا. بهذا المعنى هو غير جميل، وليس بغيضاً فقط”. “كان هدفنا في الحياة أن نحفر الكلمات التالية (لم نكن من مثيري المشاكل) على شواهد قبورنا.” و”المنزل ذو الأثاث القليل كان أشبه بإعداد خشبة مسرح بيكتي (نسبة لبيكت) لا يحدث عليها شيء، بما أننا كنا نفتقر إلى الموارد اللازمة لوقوع أحداث.” وليخصص إيغلتن الفصلين الأخيرين في الكتاب “الدونات” و”أرستقراطيون” ليتحدث في الأول عن دراسته في كامبريديج، بينما يكون في الثاني أستاذاً جامعياً طالما أنه يشرف على مشاريع تخرج الطلبة وهو يحدثنا عن طالبه الارستقراطي جستن وانتحاره وقبل ذلك ما قاله الأمير تشارلز عنه لمثقفي أوكسفورد بأنه يأمل في ألا يقوم “ذلك الفظيع المدعو تيري إيغلتن بتدريسهم”. 

اسم الكتاب

حارس البوابة

اسم الكاتب

تيري إيغلتن

الناشر

دار المدى 2015


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.