“مدريد، 1987”: فيلم محشور في دورة مياه
العدد 299 | 18 آب 2025
مبارك المخيني


لم أتخيّل يوماً أن أُحتجز برفقة أحدٍ ما في دورة مياه قديمة، في مدريد ثمانينيات القرن الماضي، برفقة شخصين آخرين في الحقيقة: كاتب عمود إسباني عجوز يُدعى ميغيل، يثرثر كثيراً، يكاد كلّ ما يقوله مقتبساً من كتاب ما، من رواية كلاسيكية. وفتاة باردة في العشرينيات تُدعى أنجيلا، تحلم بأن تكون صحفية، لكنها تحلم أيضاً بأن تتعلّم شيئاً ما، من ذلك العجوز، الذي ظلّ طيلة تلك المدّة يحاول الوصول إلى ملابسها الداخلية. لكن للمفارقة، كان رفيقاي في دورة المياه، التي استعصى بابها على الفتح، عاريين، كلاهما عاريين! هل كنتُ عارياً معهما يا تُرى؟ أنا الذي اصطدم بهذا العمل الذي تم انتاجه عام 2011 بالمصادفة المحضة، ولكن لم أشعر بالوقت ونحن نقتله، ثلاثتنا… (كنتُ مستمعاً فقط، بالمناسبة).

كنتُ أظن دائماً أن الحمّام مكانٌ مقدّس. وما زلت، في الحقيقة. نحن نبخس هذا المكان حقّه، المكان الذي نرجع فيه إلى حقيقتنا الأولى. نجعل منه موضعاً لهُرائنا وخَرائنا وكل ما يتعلّق بنجاستنا، وفي ذات الوقت ننسى أن كلّ هذا يخرج من أجسادنا نحن. نقرأ المعوّذات حين ندخل هذا المكان – ويفضَّل بالرِّجل اليُمنى – لكي نطرد من يسكنه من كائناتٍ خارج الإدراك البشري (لعلهم يقصدون الصراصير؟!) جعلنا من الحمّام مكاناً لا ندخله إلا لقضاء الحاجة أو الاستحمام، وهذا – من وجهة نظري –  منظورٌ خاطئ. الحمّام يذكّرنا دوماً بما نحن عليه في حقيقتنا. بما نكونه دون أي شيءٍ يخفي كينونتنا. نكون في هذا المكان على طبيعتنا التامّة، غيرَ مشوَّهين بشوائب التّحضُّر.

يجعل منّا هذا المكان أطفالاً مرةً أخرى؛ نركض عُراةً في كلّ مكان، دون أن نعي “الخطيئة الأولى” وفق الديانة المسيحية: أي عوراتنا. ربما لأنه المكان الوحيد الذي يُتاح لنا فيه أن نكون أنفسنا بأقصى ما نكون، حيث لا يرانا أحد، ولا نحتاج إلى الاختباء. هناك، يحدث التماهي المطلق مع أجسادنا، ومع أجساد الآخرين. إنه المكان الذي تتفجّر فيه أفكارنا بطريقة أشبه بالأعجوبة، ولا ننسى أنه معقل دموعنا، حين لا يكون للبكاء رادع اجتماعي أو حتى صحّي؛ لأنها تمضي مباشرةً إلى مصرف المياه، ثم إلى المجاري.

فيلم “مدريد، 1987″، المركَّز مكانياً على دورة المياه – باستثناء المقاطع الأولى له – أعاد إليّ هذه الفكرة، وذكّرني بقدسية هذا المكان وأهميته الوجودية لنا، خارج إطار “التفريغ الهضمي”. لا يمكن قراءة هذا الاختيار للمكان بمعزل عن هذا البُعد الرمزي له. إن الكمّ الهائل من الأحاديث التي جرت بين العجوز والفتاة لا يُحتمل تفويته، لن تفوَّت أية كلمة ممّا قالاه وهما عاريان إلا من منشفة زهريّة صغيرة.

هناك الكاتب العجوز الذي لعب دوره خوسيه ساكريستان بخبرته الطويلة مع الأدب والفن والصحافة، يتباهى بثقافته الواسعة (التي تبدو مفتعلة في البناء الدرامي لشخصيته) أمام الفتاة الصحفية، التي تبتغي إجراء حوار معه. لكنه شديد الصراحة، فهو لم يأتِ بها إلا لمضاجعتها، وهذا ما يعرفه كلاهما. في المقابل، تؤدي ماريا فالفيردي دور الفتاة الجامعية التي تعجب بكل ما يكتبه العجوز، وقد خضعت لنزواته لسببٍ ما؛ ربما في سبيل التجربة والفضول، وربما لأنه لم يكن هناك خيار آخر سوى ممارسة الجنس في مكان مغلق، يحدث أنه دورة مياه. وربما لأنها رغبت في إسكاته، لأنه لا يكفّ الحديث عن الجنس، بأسلوبه الأدبي المنمّق، وصوته العميق الذي لا يتوقف عن الحديث. في جميع الحالات، هي تجربة تحتمل أكثر من تأويل.

يُعد الحوار المنطقي والطبيعي الذي شمل كل الفيلم تقريباً من العناصر الجمالية الأبرز، ذلك النوع من الحوار الهادئ الذي يجريه شخصين مختلفين في كل شيء تقريباً، سوى ذلك القاسم المشترك الغامض الذي يجعل من الحوار محتملاً. ذلك التوتر المليء بالأنفاس المسموعة عمداً ليشعر المشاهد أنه هناك معهم يسمع المحادثات ويشعر بارتجاف الأجساد والصمت المتقطع بين الأحاديث. وكأن ذلك التبادل الموضوعي للأفكار عبارة عن اجتثاث مقروء لسيرورة الزمن، زمن العجوز المسلّح بالخبرة والانطفاء، وزمن الفتاة الفضولي والحذر.

إن لقطات الفيلم – رغم تمركزها في إطار مكاني واحد – بديعة تجعل من كل التفاصيل أكثر وضوحاً وقرباً من المشاهد. هي تفاصيل نهملها عادة في الأفلام؛ لأن الحمّام مبخَس قيمته حتى في الأفلام فلا نركّز في تفاصيله. تركيز الكاميراً يكون دائماً في موقع لائق ومثير للاهتمام، فاللقطات في مكنونها تعبيرات خاصّة هدف المخرج دافيد ترويبا أن ينتشلها من طابعها العملي والوظيفي ويحوّلها لمادة سينمائية غنيّة، وكل هذا في حيّز مكاني ضيّق.

هذا العمل تعبير حرفيّ عن الأفكار التي تتمخض في دورات المياه. الاكتشاف المحفوف بإيروتيكية جذلة لماهية الحب، والرغبة الملحّة للحياة والكتابة والأدب والصحافة. كما يحمل تشريحاً سياساً للساحة الإسبانية والأروبية في الثمانينيات، وصراع السلطة، وملاحقة الصحفيين والتضييق عليهم، خاصة بعد سقوط نظام فرانكو الدكتاتوري منتصف السبيعينيات.

والاكتشاف، وقد يكون القيمة الأهمّ التي نشاهدها طوال العمل. اكتشاف أجزاء من ذواتنا لم نكن ندركها، وفي أي مكان؟ في الحمّام! إن العجوز، باحتجازه هناك، ومحاولته التثبيط من الأجيال الجديدة، خرج بأن يتمنى لهم النجاة والنجاح فيما فشل فيه جيله، ذلك بعد أن حقق اكتشافه المنتظر في جسد الفتاة المضمخ بجمالٍ جديد: “Seeing a new body is something you never get tired of” [1].

والفتاة بكل تأكيد خاب ظنّها في ما كانت تأمل الحصول عليه من هذا الصحفي المخضرم. هو نفسه قال: “لقاء الأشخاص الذين نقدّرهم هي الخطوة الأولى لنكفّ عن تقديرهم”[2]. وما كان ذلك اللقاء إلا تكشّفاً جديداً وغير متوقع لها؛ فهي من اختارت أن تكون هناك، وليس هو من أغواها بكلماته. كانت تتطلّع لتحصل على نصائح وحصلت عوضاً عن ذلك على كميّة دسمة من البؤس المختلط بإبداعٍ أهلكته الرأسمالية الربحية. لكنها لن تنسى تلك التجربة، حتى وأن قالت أنها لن تفكر في هذا  “فالأمور تحدث”. في الحقيقة يبدو لي أن كلاهما، ضمنياً، رغب أن يُقفل عليهما في مكان واحد.

والمشاهد أيضاً خرج باكتشافاته الخاصة، بعد اكتشافه لحقيقة أن هناك سرّ خفي يجمع بين مشاعرنا وأفكارنا وبين دورات المياة. قد تبرز الفجوة واضحة بين جيلين في تعاطيهما للصحافة، وكأن المخرج (وهو دارس للصحافة) يريد أن يوضح عبر الشخصيتان تلك الهوة التي تجمع الكلاسيكيين في الصحافة الاسبانية ومن يمثلون مستقبل الصحافة. يرى المشاهد عمق التناقض بين الشخصيتين، ويقبع في المنتصف، بين القديم والجديد، ليخرج باستنتاجه الخاص ويعمل خياله في عملية هروبه من الواقع، تماماً كما في ذلك الإطار الخشبي الفارغ الذي احتوى فيلماً كاملاً رواه العجوز للفتاة. كما أن المتابع للفيلم لا يخشى أن يكون عارياً هو بدوره، نعم أن “يُسقط كُل الأقنعة أعداء أمام الآخر:” القريب جداً، كما أشارت الشاعرة سوزان عليوان في إحدى قصائدها [3]. حين ينكشف جوهرنا المدفون على مدار سنوات في لحظة انبلاج للمعنى، حتى ولو كانت هذه اللحظة في دورة مياة.

‘And remember, life is the perfect way to sabotage a dream’

“وتذكري، أن الحياة هي الوسيلة الأمثل لتخريب الحُلم”[4]

*****

خاص بأوكسجين

[1]  الدقيقة 20 من الفيلم.

[2]  الدقيقة 43:55.

[3]  ” ألم يكن كافياً/ أن أكشفَ كُلَّ أوراقي؟ أن أُسقِطَ الأقنعةَ/ أعداءً/ أمامَك؟” من قصيدة “أكثر من طريق” في مجموعتها “ما يفوق الوصف”.

[4]  الدقيقة 88:06.


كاتب من عُمان