نال فيلم “أنا دانييل بليك” لمخرجه كين لوتش السعفة الذهبية في الدورة الأخيرة من مهرجان كان السينمائي، وهي ثاني سعفة ذهبية ينالها المخرج البريطاني بعد أن فاز بها عام 2006 فيلمه “الريح التي تهز الشعير”، وليحضر في هذا السياق سؤال مفاده: وما هو فيلم لوتش التالي وإذا ما كان الفيلم الأخير؟ ونحن نتحدث عن مخرج في الثمانين من عمره، أمضى خمسين سنة منها مخرجاً في رصيده ما يتخطى العشرين فيلماً عدا عن مساهماته الكبيرة في المسرح والتلفزيون.
لن يكون غريباً على كين لوتش المعروف بيساريته ومواقفه الإشكالية أن يختار موضوعاً اجتماعياً وحيوياً كالمعونة الاجتماعية في بريطانيا المعاصرة والتي اعتبرها لوتش وفي أكثر من مقابلة تلفزيونية بأنها تجسد عدائية الدولة تجاه المواطن. فلوتش المحامي المتحدر من الطبقة الوسطى، والعضو الناشط في حزب العمال كان مدافعاً على الدوام عن حقوق تلك الطبقة ومستحقاتها المضمونة من قبل الدولة التي انقرضت وتعرضت للتدمير تماماً بمجيء تاتشر إلى السلطة.
وكما في معظم أفلامه التي وصفت بأنها أفلام تلامس نبض الشارع يمضي لوتش بكاميرته إلى موقع الحدث وقلب الأزمة بعيداً عن الاستديو. ولتتنقل الكاميرا في “أنا دانييل بليك” بين مكانين اثنين فقط، شقة دانييل البسيطة ومركز العمل حيث تبدأ محنة دانييل.
يبدأ الفيلم بتسليط الضوء على معاناة دانييل (دايف جونز) بدءاً من انتظاره دوره ليقابل الموظفة التي ستناقشه بوضع طلبه في قاعة ساكنة تذكر بصالات العزاء، وليتضح أن دانييل لا يعرف استخدام التقنيات فيزداد إحساسه بالعطالة أكثر وأكثر…وحين يأتي دوره لمناقشة طلبه تكتشف الموظفة جهله باستخدام الكمبيوتر الضروري لملء استمارة طلب المعونة وكشخص بدائي قادم من عالم آخر فإنه وحين تشير إليه الموظفة أن يحرك الماوس لأعلى الصفحة، يقوم دانييل وسط دهشة الموظفة برفع الماوس بيده ولصقه على شاشة الكمبيوتر.
في مشهد حضور دانييل ورشة كتابة السيرة الذاتية تمر الكاميرا الذكية على وجوه المشاركين، إنها وجوه كئيبة وحزينة تعكس بدقة محنة الإنسان المعاصر في بريطانيا الحالية، وليمتد ذلك إلى مشهد الأم العازبة كيتي (هايلي سكويرز) وهي تنهار باكية جراء إحساسها بالذل في بنك الإعانة الغذائية حيث يصطف المحتاجون بالأرتال لأخذ سلة غذائية تكفيهم أياماً معدودات. تم الحديث كثيراً عن هذا المشهد وبراعة تصويره على مسافة مدروسة فتظهر حقيقة انكسار إنسانة تكره وضعها، ذلها وحاجتها للطعام. حاجج لوتش أيضا ًفي أكثر من مقابلة بخصوص هذا المشهد والذي اعتبره البعض مبالغًا فيه وكان رد كين: بأنه في العام الماضي وحده تم توزيع ما يفوق المليون سلة غذائية في بريطانيا.
مشوار دانييل العبثي في الحصول على معونة مركز العمل؛ وانتظاراته الطويلة على الهاتف، إضافة إلى نقاشاته اليائسة مع موظفات المركز ورجال الأمن، والتي تكون مترافقة مع سيل من التفاصيل المهينة، سيدفعه إلى الحنق والغضب فيكتب على حائط المركز بالبخاخ “أنا دانييل بليك. لا أستطيع العمل ودولتي لا تساعدني. أنا إنسان لدي كرامة ولا أريد أن أكون عالة على أحد”، وليؤدي ذلك إلى اعتقاله وسط ضجة المتفرجين والمتابعين العابرين. بعد الإفراج عنه لنظافة سجله السلوكي يقرر دانييل حبس نفسه والاعتزال في شقته البسيطة وبيع مقتنياته وذكريات حياته.
محنة دانييل مع مركز العمل كانت كفيلة بتعجيل موته، وذلك قبل أن يستمع لقرار المركز فيما يخص اعتراضه على قراره.
تقرأ كيتي التي أنقذها دانييل من تحولها إلى مومس نص وصيته:
“أنا دانييل بليك عملت لأربعة عقود، دفعت كل مستحقاتي الضريبية، كل ما أردته هو أن أعيش بكرامة..
أنا المواطن دانييل بليك لم أرغب أبداً أن تعاملوني إلا كمواطن له كيان وكرامة.”
كانت تلك الوصية هي المشهد الأخير من الفيلم الذي حقق إقبالاً جماهيريا كبيراً في صالات العرض البريطانية، وفي أحد مقاطع الترويج له نرى شخصيات اجتماعية وسياسية بمستوى جيرمي كوربين رئيس حزب العمال البريطاني يردد عنوان الفيلم: “أنا دانييل بليك”.
*****
خاص بأوكسجين