“شجرة الإجاص البرية”.. حدث ذات مرة في مقتبل العمر
العدد 239 | 16 كانون الأول 2018
زياد عبدالله


جديد نوري جيلان مدعاة لتلقي جرعة جمال كبيرة تطفو على الشاشة، بدءا من موقع التصوير، وهو يقتطع منطقة بعينها من تركيا، ويؤسس عليها سرده البصري، وصولاً  لتتبع مصير شخصية رئيسة، وتكوينها الثري ومآزقها، دافعاً بها في خضم مرحلة من الحياة، ستكون في فيلمه “شجرة الإجاص البرية” The Wild Pear Tree في ريعان الشباب، أي سنان الذي سيكون قد تخرج للتو من الجامعة، وما من شيء ينتظره سوى أب يكون لعنة وبركة في آن معاً.

على امتداد ثلاث ساعات وثماني دقائق يضعنا جيلان حيال سنان، مجسداً كل ما يعصف بشاب في مقتبل العمر، هو القارئ النهم، وكله رغبة بأن يكون كاتباً، مستخلصاً أفكاراً فلسفية من واقع يبدو معطلاً وراسخاً في زمن لا يتحرك، وقد عاد إلى قريته بعد تخرجه. وهو في هذا السياق لا يجد ما ينتظره سوى ديون والده، المدرّس لكن المقامر، المفلس، المغامر، الذي يحفر بئراً في أرضه معارضاً كل أراء أهل القرية بأن لا وجود للماء في تلك الأرض.

هذا التتبع الأفقي لمصير سنان، تكون تصاعدية الأحداث فيه متناغمة تماماً مع استكمال كل ما لشخصية سنان أن تكون عليه، الشق العاطفي والإبداعي والأخلاقي والديني. فعاطفياً على سبيل المثال يضاء ذلك من خلال لقاء سنان بخديجة وسرقة بضع قبل، ومن ثم زواج الأخيرة من صائغ الذهب. ويشكّل الحوار في هذا السياق أداة رئيسة في تكوين الفيلم (حوار سنان مع الإمامين الشابيين كمثال) كما في “سبات شتوي” ، بما يجعل من “شجرة الإجاص البرية” استكمالاً له كبنية سردية، وإن كان الأول أشد وقعاً وتميزاً، بعيداً عن أسلوبية مغايرة تعتمد السرد البصري والتقشف في الحوار في أفلام سابقة لتلك مثل “حدث ذات مرة في الأناضول” أو “مناخات” أو “بعيد” أو “ثلاثة قرود”.

يتوكأ جيلان كما دأبه على أدوات واقعية في بناء جماليات فيلمه، إلا أنه في هذا الفيلم يعرّج على الأحلام من دون تقديم أي عنصر يفصل بين الحلم والواقع، فعلى سبيل المثال لا يمكن فصل الحوار الطويل الذي يمضي به سنان مع الكاتب الذي يلتقيه في المكتبة عن استيقاظه في الحافلة بعد أن يكون مختبئاً في حصان طروادة، طبعاً الحوار قد حصل في الواقع لكنه متداخل من دون أي فواصل مع حلمه الذي يهرب فيها ويختبئ في الحصان آتف الذكر، كذا هو مع نهاية الفيلم وهو متدلٍ من البئر. وطالما أوردت البئر هنا، فيمكنني إيجاد رمزية كبيرة ترافق الفيلم في إحالة إلى سيزيف، فالأب يحفر ويحفر ولا ينتهي الحفر من دون أن تخرج المياه، كما صخرة سيزيف، وحين يخبر ابنه سنان بأنه استسلم وآمن بأن أهل القرية كانوا على صواب، يمضي سنان ويواصل الحفر.

فيلم “شجرة الإجاص البرية”، وهو عنوان الكتاب الذي يطبعه سنان ولا يبيع نسخة واحدة منه، إنه عن علاقة الابن بأبيه، وما غرسه الأخير فيه، وما يمقته الأول في الثاني، وهو كشّاف لما يعتمل في أعماق شاب مثل سنان، غروره وفضوله، جنباً إلى جنب مع قدرته على الحب والبغض، الأحلام والخيبات، وجميعها متصلة بواقع مرصود بعناية معلم بحجم نوري جيلان.


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.