ليلة السرطانات
العدد 301 | 16 تشرين الثاني 2025
علي عبدالله سعيد


تقرؤون في ما يلي مقتطفاً من رواية “لحمي الحميم” الصادرة أخيراً عن “محترف أوكسجين للنشر”:

 

لم تغب تلك الأحاسيس البسيطة المؤرّقة، التي يمكن أن تكون حبّاً، أو شعوراً مُباغتاً به. هكذا… ببساطة، بل بسلاسة غير متوقّعة، يتسلّل مثل هذا الشعور إلى الدواخل الصلبة، ثمّ يقضي على مقاومتكَ ودفعة واحدة كائناً من كنتَ. وقد يحيلك في لحظة غادرة إلى كائن خفيف، أو ضعيف بعض الشيء. أو هشٍّ بما فيه الكفاية.

في حالات أخرى…

قد يحيلك إلى عصفور غرّيد، أو إلى ملاك على حين غرّة…

ما لم تغب منها بعد التفاصيل الدقيقة…

تلك الليلة من البحر البعيد…

الحافلة بالسرطانات والرقص…

في طقوس النار…

كان من الطبيعي أن ينام الكائن، أيّ كائن من الحضور… كيفما اتفق. أينما أراد، دون تحميل ذلك إشارات استفهام حادّة، أو غير حادّة. بما أنّه طقس جماعي يلغي الفرديّات والملكيّات برمّتها، ويعود بالكائن إلى المشاعيّات الأولى.

قبل الضوء الأزرق…

ألمحكَ في باب الخيمة، كنتَ مبتلّاً والقطرات من الماء تلمع على جسدكَ لمعاناً أخّاذاً. لم أكن لأستطيع أن أوصِّفَ حركة قلبي بعد أن أصبحتَ في الداخل… داخل الخيمة، داخل الخوف، داخل الرغبة، داخل الشهوة حتّى.

من يدري…

لو لم تكن هيرا في الخيمة، لكنتُ استقبلتكَ عارية كما ولدتني أمّي بشهقات وصرخات. ولكنتُ نشّفْتُ جسدكَ بجسدي. ولكنتُ سلّمتك جسدي كما يليق بامرأة عاشقة منتظرة، متلظّية، هائجة أن تفعل. ولكنتُ رجوتُ منكَ أن تفتكَ بعذريّتي من غشاء البكارة، إلى ما يغلّف الروح من أغشية الخوف والرهبة.

من يدري…

ربّما كنت سأفعل ذلك أمام سمع هيرا وبصرها، طالبة منها أن تكتم سرّ الخالة إلى أمد طويل. لا تنطبق مقاسات الأحلام على ما يحدث غالباً، من أحداث.

المرأة…

تكون واضحة في مكانها ككتلة متحرّكة في الزمان والمكان، ما بين الضوء والعتم، ما بين الماء والهواء، ما بين الرؤية والرؤيا، وكأنّها دون إرادة تذكر. تتحوّل مع نبضات القلب المباغتة، إلى قدر لا يمكن الفكاك منه أبداً. بعض الفِخاخ المحكمة لا ينجيكَ منها، أو يبعدكَ عنها أحد، لا تأمن مغبّة الوقوع في أتونها بتلك الرغبة اللاإراديّة، أو بذاك السرور الخفيّ، الذي يصعب ضبطُه، أو قمعُه، أو إخفاؤُه من صيغة الزمن… الغد. غدكَ الفرديّ. في المتخيّل، في الشائع، في المتخيّل الشائع… كثيراً ما نبني في اليوم على الغد. رغم أنّنا في زمننا، في هذه البقعة من الأرض، الذي هو الماضي بآثامه وشروره وجرائره وجناياته، التي تحكمنا أبد الدهر كحكايات مُدرّة للندم والأسى، هو ما نبني عليه وبه… ما من شيء أكثر من ذلك.

بعدئذٍ…

نمضي في الحكاية كيفما اتفق، كيفما جاءت، كيفما اكتملت، كيفما نقصت، أو ماتت من جذورها، أو من تفاصيلها، وكأنّها حكاية غير قابلة إلّا للموت.

لم يكن للحكاية أن تزيد عن ذلك كثيراً…

تلك الصدمة…

يمكن القول هنا… إنّ الكائن كان متوازناً كبيراً. بل كان وحيداً في عزلته، في بيته وعالمه، كي ينقّيَ روحه من الضجيج، من غبار المدن. في صورة… من صوره التي تنعكس أمامه باستمرار، يبدو هادئاً ومنسجماً مع محيطه، ثمّ مع زمنه الفردي، الذي يقضيه تارة في الصيد، وأخرى متأمّلاً حياة الأشجار والنباتات، وأقواس قزح، والطيور في محيط البيت. ثمّ انعكاس الضوء على تلك الكائنات في أوّل الصبح، ثمّ في الظهيرة، ثمّ في الغروب، وما بعده… محاوِلاً قدر الممكن التعايش مع الصورة الجماليّة للكون برمّته، وكأنّه ليس أكثر من ذاك الأمان، أو الطمأنينة، التي ينشدها المرء، كما لو كانت حياة أخرى، في كوكب آخر.

خلفه…

لم يكن قد ترك الكثير ممّا يمكن أن يدلّ عليه في العزلة. سوى القليل من تفاصيل المدينة الأمّ. ثمّ جهة البيت إلى الشرق من المدينة. ثم اسم المكان إلى الجنوب قليلاً، الذي قد يكون حقيقة، وقد يكون وهماً، أو افتراضاً. لم يكن ذلك يكفي كي يستدلّ عليه أحد في محترفه، أو ما اعتاد أن يطلق عليه محترف العزلة. إذْ… إنّ المكان هنا يصلح أكثر ما يصلح، لأن يكون منتجعاً لعلاج الروح كثيراً ممّا أصابها من الأعطاب، أو الأذى. أو القروح، بإعادة إنتاج العالم وفق رؤيا جمالية، عبر لغة جمالية، لا تخلو من غموضها، أو إثارتها الجمالية أيضاً. كان هنا هادئاً كفرد، كمستنقع ربّما… كطمأنينة، أو كزمن عائم ومبهم.

إلى حدّ بعيد…

إلى أن كان ذلك…

حيث لم يكن يُتوقّع أو يُرتقب، أو يُحلم حتّى بمثل حَدَثٍ كهذا. في مكان كهذا. أي بعد سفره بأيّام عديدة وطويلة، وباردة نسبياً في مقتبل الشتاء. في المُحترف، في العزلة، في الحكاية، أو الرواية، غير المنسابة كتفاصيل سرديّة لزمن مملّ بعض الشيء. كان صوت سيّارة تتوقّف في الشارع، خلف الباب… اكتشف أنّها سيّارة أجرة بداخلها امرأة. لا بدّ أنّ الكثير من الأسئلة قد توصلكَ إلى المكان الصحيح، أو المقصود. حتّى لو كنتَ قادماً من فضاء آخر.

بعد ذلك…

بعد ذاك الصوت، ينقلب الكائن هنا… إلى آخرَ تماماً. آخرَ… مرتبكٍ، آخرَ… متلعثمٍ بلسانه من الفرح المباغت. يا للجنون… لم يكن هذا متوقّعاً في أيّ لحظة، في أيّ توقيت، في أيّ لغة ممكنة، أو غير ممكنة. ليس هناك من لغة غير ممكنة في الزمن، غير تلك التي لسكّان الكواكب والمجرّات البعيدة، التي لم يكن ينفي وجودها البتّة.

إلّا أنّه اللحظة…

بعد أن آل الزمن إلى مسافات… بعد مسافات، كزمن للسرد الناقص، أو غير المكتمل. يسمع صوتها، صوت الضحيّة النموذجيّة المكتملة كضحيّة لا ينقصها شيء. وهي لا تبعد عنه بين الفينة والأخرى أكثر من مسافة قبلة طارئة. قبل أن تقع في التبكيت الناجم عن تلك الليلة. حينها لم تكن المسافة ما بين نايات، وهيرا، تزيد عن ذاك الشبر. ربّما أقلّ… تكرّر وتقول: حتّى إنّنا ما كنّا لنبدوَ إلّا كتوأمٍ بالشعر من الخواتم، بالجسد المقدود المشدود، بالأفخاذ الممتلئة حدّ الهول، بالقامة القصيرة بعض الشيء. ما كان يميّزنا بعضَنا عن بعض… سوى أنّها لعوب، لعوب مدمّرة للجملة العصبيّة في رأس الذكور… وتريدهم قاطبة لها وحدَها.

في ذاك الفراغ الضيّق…

تتمدّد بيننا، تتمدّد على ظهركَ. لم يدم ذلك طويلاً. لم تَمِلْ نحوي وحدي. لم تمل نحو هيرا وحدَها. أشعر أنّ ساعدكَ قد أصبح تحت عنقي كما كنتُ أرغب. كما كان يتوقّع قلبي البائس. أضع يدي على صدركَ. أتلمّسه، أسمع نبض قلبكَ من أطراف أصابعي.

لم أكن أفكّر فقط…

بل كنت أحلم وأخطّط

أخطّط وأحلم…

إلى أن كانت الصاعقة…

إلى أن اكتشفتُ برعب جليّ أنّ يداً من الجهة الأخرى، من الجهة المقابلة على صدركَ أيضاً. كانت يد هيرا، التي سرعان ما احتضنتها بيدكَ الأخرى. اثنتان بين أحضانك، الخالة، وابنة شقيقتها، ترغبان فيكَ معاً، ترغب فيهما معاً. لا بدّ أنّ قلبي توقّف قليلاً عن الزمن. أُصيب بالخرس المفاجئ. ربّما بالموت لثوانٍ معدودات. لم يصدر أحدنا صوتاً، كأنّما تواطأنا نحن –الثلاثةَ- سريعاً مع الحالة، تفادياً لأيّ لغط. لا بدّ أنّ جرأة هيرا قاصمة للظهر، أو يجب استيعابها… وإلّا…

لم يكن وارداً إصدار صوت، أو رفض، أو احتجاج. كانت يدكَ ما تزال تحت عنقي، والأخرى تحت عنق هيرا. إلّا أنّ وجهكَ لم يعد صوبي. بغتة أراها كأفعى خطيرة، تنقضّ عليكَ تبتلع شفتيكَ بين شفتيها، تبتلعك بعنف.

*****

خاص بأوكسجين


روائي من سورية، مواليد اللاذقية 1958. من رواياته: “جسد بطعم الندم”، (2020). “البهيمة المقدسة”، (2020). “براري الخراب”، (2000). فازت روايته “جمالية المتاهة” بجائزة منتدى ابن خلدون، القاهرة (1993)، بينما نالت روايته الأولى “اختبار الحواس” جائزة مجلة الناقد، لندن (1992). صدر له في القصة: “موت كلب سريالي”، جائزة أصدقاء الأدب، دمشق (1996)، و”هكذا مات تقريباً" (1993). صدر له عن محترف أوكسجين للنشر رواية "سكّر الهلوسة" (2023).