“هيرتسوغ” سول بيللو: لــمَـــن نكتب الرسائل؟
العدد 222 | 15 تشرين الثاني 2017
أحمد الزناتي


في الجزء الأول من موسوعة أدباء أمريكا للدكتور نبيل راغب (دار المعارف– بدون تاريخ)، يُـوصَف سول بيللو(1917-2005)، الأديب الأمريكي، ذو الأصول الروسيّة بأنّه أديب كبير بسبب حصوله على جائزة نوبل في الأدب سنة 1976، لكنّه لا يـرقـى إلى مـصافّ كبار الأدباء الأمريكيين الذي حازوا الجائزة، مُـشيرًاإلى وليام فوكنروشتاينبِك وهيمنغواي وأونيل.

يقلّل د. راغب من شأن بيللو، والسبب هو انغلاق عالم بيللو على مناقشة قضايا الأقليّات اليهودية داخل المجتمع الأمريكي. هاجر بيللو إلى الولايات المتّحدة بسبب الحرب العالمية الثانية، وتلقّى تعليمه الجامعي في جامعتيّ شيكاغو ونورث ويستيرن. بدأ نشر أعماله الأولى سنة 1944 برواية “الإنسان المتأرجح،” ثم تلاها روايته الشهيرة “مغامرات أوجي مارتش” 1953 التي حاول بها مضاهاة تحفة مارك توين “مغامرات هاكلبري فين”، ثمّ رواية “هيرتسوغ” 1964 التي نالت جائزة الكتاب الوطني.

هل تستمرّ نظرة القارئ إلى هذا الصنف من الأدب إذا قرأ رواية ““هيرتسوغ”؟

تمثل رواية “هيرتسوغ” نقلةً نوعية في النمط الروائي الذي يكتبه بيللو. نَشِرت الرواية سنة 1964، واستقبلها المحيط الأدبي الأمريكي وقتها، باعتبارها إعلانًا عن انتقال بيللو من الدائرة النخبوية الضيّقة، إلى الفضاء العام، والانتشار الجماهيري. حيث احتلّت الرواية صدارة “البست سيللر” لمدّة اثنين وأربعين أسبوعًا متواصلًا وفقًا لتقييم صحيفة نيويورك تايمز وقتها.القصّة مَحكيـة من منظور الراوي الشخصي، د. هيرتسوغ، الذي يعتمد على تقنية الرسائل في إخراج الأفكار التي تسيطر عليه. لا يغيب عن أي قارئ للرواية، مقارنة بطلها موسى هيرتسوغ، بمؤلّفها سول بيللو. فكلاهما يهودي الأصل، وكلاهما مهاجرٌ من روسيا، وكلاهما عاش فترةً من الوقت في شيكاغو. كان سول بيللو يقول دائمًا: “لا يدرك الناس إلى أي حدّ يعيشون في قبضة الأفكار”، مؤكّدًا أننا نحيا وسط الأفكار أكثر مِن حياتنا وسط الطبيعة والناس، فيـتـرجم موسى هيرتسوغ  بطل الرواية هذه النظرة ترجمةً أمينةً، وفيّة للأصل.

يدور محور الرواية حول د. موسى هيرتسوغ، وهو أستاذ جامعي في منتصف الأربعينيات، يعاني أزمة نفسيّة عنيفة بعد فشل زواجه الثاني، وانفصاله عن زوجته مادلين بعد خيانتها. يحاولُ البطل بعد واقعة الطلاق، تأملّ حياته التي تسرّبـت من بين أصابعه سنةً وراء الأخرى، متأملًا إخفاقاته وإحباطاته. يوظّف بيللو تقنية الرسائل توظيفًا جيّدا، فالرسائل هـي وسيلة البشر الوحيدة للتواصل مع الآخرين، كما كانت وسيلة السماء للتواصل مع الأرض. يحرّر د.هيرتسوغ رسائل إلى البشر كافّة؛ بدءًا من أفراد عائلته وأصدقائه وزملاء العمل وتلامذته في الجامعة، وصولًا إلى كتابة رسائل مُتخّيلة، ذات مغزى فلسفيّ، إلى مفكّرين روحيين وقادة سياسيين، مِن بينهم غاندي ومارتن هايدغير، مارتن لوثر كينغ، آينشتاين والرئيس الأمريكي آيزينهاور. بـعــض المُرسَل إليهم على قيد الحياة، والآخر فارقها منذ زمن. ولا فرق بين مَـن بقى ومـن رحل. المهمّ هو الاستمرار في كتابة الرسائل.لكن الرسائل تظلّ دومًا غير مُكتملة، مبتورةً مثل روحـه، مُـكبّلة مثل عقله، أسيرة أدراج مكتبه ولا تفارقها أبدًا.لا يجمع الرسائل سوى رابطٌ واحد، وهو الإحباط الشديد، والاعتذار المتكرّر للجميع، إلى كلّ مَن أخطأ في حقّهم طوال حياته. اللافت أنّ أسلوب كتابة الرسائل كلاسيكي يعودُ إلى القرن الثامن عشر، وكأنّ المؤلّف يبعثُ، هو الآخر مِن وراء الستار، رسالةً إلى المتلقي مفادها أنّه لا يطمح إلى بنية روائية مبتَكَرة، ولا يسعى إلى أن يصنع مِن “هيرتسوغ” بطلًا في عيون الآخرين. تبقى البطولة حُلْمًا بعيد التحقّق، بل سرابًا كاذبًا.

الحياة لا تضم تحت جناحيها أبطالًا، بل نعاجًا بين الذئاب. يستمرّ هيرتسوغ في تحرير رسائله، فالمهمّ هو أن نكتب بالرسائل. تحفل الرواية بشخصياتٍ كثيرة وثريّة، مادلين الزوجة الخائنة، ورامونا الشهوة المتّقدة، وغيرها، وهي شخصيات مهمّة ومؤثرة، هي أيضًا مراحل في حياة البطل، يكتشف من خلالها نفسَه.

رواية هيرتسوغ هي رحلة حقيقية لاكتشاف الذات. كانت مشكلة هيرتسوغ الرئيسة هي صراعاته الداخلية وعدم فهمه لنفسِه ولخطاياه في الحياة، وربما كان ذلك سبب كتابة الرسائل. ونكـتـشف على مدار الرواية أنّ تلك الصراعات مصدرها القناع الذي كان يرتديه هيرتسوغ أمام الجميع، القناع الذي يُظهر عكس ما يُبطن، فهيرتسوغ، رغم تحقّقه المهنيّ، ومكانته الإجتماعية المرموقة، وشجاعته أمام الآخرين، شخـصٌ أناني ونرجسيّ، مُـعـتـدّ بذاته حـدّ الغرور،لا يتوقّف عن جلِد نفسَه باستمرارٍ، يجـرح مَـن يحبّهم صباحًا، ويلومُ نفسَه طوال الليل على إلحاق الأذى النفسّي بهم.

والرسائل واضحة؛ فـفي رسالةٍ يبعث بها “هرتسوغ إلى آلبرت آينتشتاين، يسأله فيها:”عزيزي آينشاتين..لماذا يكرهني الجميع..؟ يأتيه ردّ آينشتاين:”..عزيزي هيرتسوغ..لأنكَّ مُزعج..”

واحدةٌ مِن أهم الأفكار التي تطرحها رواية هيرتسوغ هي أنّ مكافحة الإنسان للبقاء في الحياة تكمن في امتلاكه وعيًا قويًا بأن الصراعات الداخلية داخل عقلهما ما هي إلا جزء مِن تكوينه كـ”بني آدم”.

تلحّ الرواية على قارئها بأن يتحلّى بالصبر على وجوده وسط البشر، كونه إنسانًا يعني بالضرورة أن يكون “حمّال أسيّة”.يقدّم بيللو حلًا يتّسق مع الفكرة العامّة للرواية. نلمح ذلك في كثيرٍ مِن عبارات هيرتسوغ التي يوجّهها في رسائله:

“.. لا تبكِ أيها الأحمق.. اختـر الموتَ أو الحياة….ولكنّ لا تسمّم كل شيء في طريقك..”

“..عليكَ أن تحارب كي تصون حياتكَ..هذا هو الشرط الأساسي كي تحتفظَ بها..”

“..كل كنزً مُـحــاطٌ بوحوش تحميه، وهو ما يجعل للكنز قيمة..”

 “..الاستعداد للإجابة عن كلّ الأسئلة دليل حـاسمٌ على الحماقة..”

يرفض هيرتسوغ طوال الرواية أن يسلك الطريق السهلة لمعرفة نفسه، نائيًا بنفسه عن الكليشيهات الجاهزة المُبتذلة لوصف ذاته: عَدمي، رومانسي، سادي، إلخ، مُـفــضـلًاعليها الطريق الوعرة؛ طريق التكيّف مع الحياة؛ الاستسلام لثنائية الفشل والنجاح، الحبّ والكُره، العمى والبصيرة، وهذا عملٌ من أعمال القلب، لا العقل كما يقول التراث الصوفيّ. في التراث اليهودي القبّالي الأثير في أعمال سول بيللو، كما في التراث العرفاني، نتعلّم أنَّ الاسم هو بداية المعرفة، ومَـن لا اسم لـه، لا وجود له.

اسم بطل الرواية هو “موسى هيرتسوغ”؛ الإسم الأولموسى، نبيّ الله الذي ارتكب جُـرمًا غير مقصود في شبابه، لكنّه كان نقيًا طاهر القلب، فكان كليم السماء. أماالإسم العائلي فهوHerzog، وتعني كلمة Herz  في اللغة الألمانية “قـــلـب”. رسالةٌ مُضمَرة يحملها العنوان.لن يعرف قارئ الرواية ما إذا كان هيرتسوغ قد نعِم بالسعادة الحقيقة في نهاية رحلته أم لا. السعادة عُمرها قصير، لإنّها ابنة الحياة، والحياة أقصَرُ عُمرًا. لكنّ القارئ يستشعر  كذلك لحظات بهجة قويّة ومؤّقتة، تجتاح هيرتسوغ، في المشهد الذي يفتح فيه نوافذ منزله كلها مرّة واحدة، فتغمر أشعّة الشمس محيط المنزل بأكمله.

يعي هيرتسوغ جيدًا – باعترافه في الصفحات الأخيرة- أنّ الحياة ما زالت تحمل له المزيد مِن الشقاء، وهذا طبيعيّ، إلا أنّه يعـتـزم قبول الألم، وعدم الاستسلام لشعـور الإحباط الذي مَـردّه رغبته الساذجة في سعادةٍ أبدية لا تزول.”أعـثـرُ عـلى سعادتي في تـرك الاختيار، وفي الـقـبول الهادئ للـواقـع كما هو.”

تنتهي رواية بيللو بالعبارة السابقة، ويقرّر هيرتسوغ بعدها التوقّف عن كتابة الرسائل. 

اسم الكتاب

هيرتسوغ

اسم الكاتب

سول بيللو


روائي وقاص من مصر. من رواياته "البساط الفيروزي: في ذكر ما جرى ليونس السمّان"" 2017، و""ماضي"" 2017."