“أرض جيفار”… حين تصبح خلاصاً فردياً!
العدد 261 | 14 تشرين الثاني 2020
زياد عبدالله


ما الذي يفعله جيفار في فرنسا؟ كيف تمضي أيامه وهو بعيد من سوريا؟ كيف هو طعم اللجوء؟ وهل لبضع كؤوس من العرق، برفقة أغانٍ لصباح فخري ومغنين سوريين آخرين يرددها الأصدقاء والصديقات وقد اجتمعوا للاحتفال بعيد ميلاد ابنه الوحيد أن تمحوا مرارته؟ ربما قد تخففها قليلاً، وتجرده موقتاً من سطوتها وسوريا تمسي أكثر بعداً.

تلك أسئلة راودتني وأنا أشاهد أولى التجارب الوثائقية الطويلة للمخرج السوري قتيبة برهمجي “أرض جيفار” (نال تنويهاً خاصاً لدى عرضه في الدورة الـ 11 من مهرجان أوديسا السينمائي 2020، كما عُرض في الدورة الـ 42 من مهرجان سينما الواقع 2020، وفي كلا المهرجانين جاءت العروض عبر الإنترنت بسبب “كوفيد -19”)، وهي للدقة أسئلة تظهر وتغيب، على وتيرة الأمل الذي يسجله ويوثقه برهمجي في حياة جيفار، اللاجئ السوري مع زوجته وابنه في فرنسا، وقد حصل على قطعة أرض صغيرة في ريمس، واستيقظت كل آماله معها، وأمست زراعتها شغله الشاغل، ونحن نراه يعدّ شتلات نباتاته في بيته، ويقسّم الأرض إلى أقسام، يريد أن يزرع خياراً في هذا القسم، وباذنجاناً في الآخر، ويقطيناً بالقرب من السياج، ولتتحول زراعة هذه الأرض مقياساً للأمل، الذي يرتفع أو ينخفض منسوبه وفقاً لاستجابتها لأحلام جيفار البسيطة المتمثلة بأن تُخرج له خضراوته، أن يتذوقها، أو أن يعدّ منها طبق سلطة مثلاً.

يمكن تتبع مسعى جيفار هذا بوصفه شكلاً من أشكال الاندماج مع حياته الجديدة في فرنسا، ومنبع أمل وتفاؤل، ونحن نراه يخاطب مخرج الفيلم (مصوّر الفيلم ومونتيره أيضاً) بأن الحلم هو المكان الوحيد الذي لا يملك السيطرة عليه، فهو يعيش عيشة لا بأس بها ويشغل نفسه بالأرض، ويتجنب متابعة الأخبار و”فايسبوك”، لكن سوريا تتسرب إلى أحلامه، ويزوره في المنام من لا يرغب في زيارته. أورد ذلك من بين أحاديث قليلة يسجلها الفيلم، لها أن تضيء على أعماقه، وغالباً ما يتم تبادلها مع أصدقاء، كما يشير في بداية الفيلم، بأن عودته إلى سوريا مستحيلة، بينما من بين أصدقائه من يقول بأنه بمجرد سقوط النظام سيعود إلى سوريا، وأشياء من قبيل حديثه عن أن ما كان خلاصاً جمعياً تحول خلاصاً فردياً.

تمر هذه الأحاديث سريعة وخاطفة، فالأساسي في الفيلم هو الأرض، وهي وحدها التي ستصوغ كل ما في الفيلم، وهي تعاند جيفار، وهذا الأخير – كما سيتضح تدريجياً – لا خبرة له ولا دراية واسعة بالزراعة، أو أنها أرض غريبة عليه، وليست بحال من الأحول تشبه الأراضي في مدينته السلمية (وسط سوريا)، فهي تارة يضربها الصقيع، وأخرى يقوم مجهولون بسرقة يقطينها، عدا مواجهته أوضاعاً جديدة لا عهد له بها، مثل أن تمنع السقاية في أيام، أو أن يقوم المشرف على المزارع بتصوير أرضه وإرسال تنبيه إليه متعلق بكثرة الأعشاب فيها، فيجيبه برسالة اعتذار، بينما تقول له جارته الفرنسية شيئاً من قبيل أن هذا المشرف لا يملك الحق بفعل ذلك، وأنها ستتقدم بشكوى ضده، فيقول: “أنا أعتذر أما هي فتشتكي”.

ترتيب تلك الأحداث، مونتاجها وتسلسلها، ستجعلنا حيال دراما الأرض في حياة جيفار، دراما صراعه معها، والذي يأتي على مستويات متعددة، ولكل مستوى منها عوائقه ومتاعبه، والتي ستكون بداية متعلقة بالطبيعة أو المكان وليضاف إليهما حقيقة كونه لاجئاً، بالتالي فإن عليه واجبات والتزامات تمليها عليه هذه الصفة، والتي ستكون طيلة الفيلم الصفة الوحيدة التي يحملها، فعدا عن كونه زوجاً وأباً، فإننا لن نعرف شيئاً عن عمله أو تخصصه في سوريا، الأمر الذي سيقود إلى تمحور دراما واقع جيفار حول سؤالين: وهل من نجاح أعظم من أن تخرج له الأرض زرعها وتكافئ جهده وتعبه هو وزوجته؟ وهل من شيء أشد إيلاماً وخيبة من ألا ينجح كل ذلك؟ وقد أمست هذه الأرض حبل نجاة، وهي تماماً ما يقصده حين يتحدث عن الخلاص الفردي الذي يسعى إليه بعد أن كان لا يراه في وطنه إلا خلاصاً لكل السوريين!

 لا أريد أن أحيل الفيلم إلى تأويلات كالقول مثلاً إنها أرض غريبة على جيفار وتلك هي معضلته! لا أريد ذلك رغم أن في الفيلم الكثير مما يغري بقول ذلك، وسبب إحجامي مردّه ربما السعي إلى اتباع أسلوب الفيلم المعتمد أولاً وأخيراً على ما تسجله الكاميرا، بحيث سيتضح من تقلبات الأرض والمناخ ومنسوب الزرع والنبات أنه مصوّر على فترة زمنية طويلة، ومن ثم ترتيب هذه المادة الحياتية المترامية مونتاجياً، من دون حاجة لأدوات تسجيلية أو وثائقية أخرى مثل التعليق أو المقابلات. لا بل إن جفار من سيسأل المخرج وليس العكس، كأن يطلب منه المساعدة حين يضطر إلى التحدث باللغة الفرنسية أو قراءة أو كتابة رسالة بها، وهو ما زال في بدايات تعلمها.

تعود الأسئلة التي بدأت بها مقاربتي للفيلم، وقد اتضح مع نهايته مصير جيفار وأرضه، وما آلت إليه أمانيه، والتي ستبدو كما العشب الذي سيكون ابنه قد وضعه على الطاولة لدى استقباله بعد غياب طويل، فيسأله عنه، وليقول له الابن إنها لغزال بابا نويل حتى يضمن مجيئه وتحقيق أمنياته.

*****

عن موقع النهار العربي


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.