“جولة أخرى”… أعظم احتفالية سينمائية بالكحول
العدد 264 | 14 أيار 2021
زياد عبدالله


كنت سأترجم ما أسمعه بالدنماركية وأقرأ ترجمته إلى الانجليزية على النحو التالي “فُطر الإنسان على الكحول”، لكن ما قادني إلى خطأ هذه الترجمة تمثّل بما تلاها من إشارة إلى نسبة محددة من الكحول، بما دفعني لترجمتها على هذا النحو “ولد الإنسان وفي دمه 0.05 من الكحول”، متبيناً أيضاً وبتفكير بسيط بأنني لن ارتكب خطأ فادحاً إن استخدمت “فُطِر” بدلاً عن “ولد”!

حسناً لأضع هذا جانباً، وأوضح أن المراد من تلك العبارة القول إنه من المهم والنافع والضروري حضور هذه النسبة الكحولية في دم البني آدم، وليس هذا كلامي بل اقتبسه من فيلم المخرج الدنماركي توماس فنتربيرغ “جولة ثانية” Another Round الفائز بأوسكار أفضل فيلم دولي (أفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية كما كان يسمى هذا الأوسكار في السابق)، كما أنه يعتمد على دراسة عن الحضور البهي للكحول في حياة البشر، ولتحضر مجدداً قضية الترجمة فإن Round هنا تعود إلى تجديد جولات الشراب بعد فروغ كؤوس الصحب المجتمعين على احتساء الكأس تلو الآخر.

نسبة الكحول المشار إليها سالفاً يمكن الحصول عليه بكأس أو اثنين من النبيذ أو البيرة، وهي مفصلية في هذا الفيلم الجميل، والذي له أن يكون احتفالية كبرى بثقافة الكحول، وأثره الوضاء في الحياة، وكل ما نشهده هو حياة أربعة أصدقاء جميعهم مدرّسون في المدرسة ذاتها، ومنهم من يدرس التاريخ، وآخر علم النفس، والثالث الموسيقى، ورابعهم مدرس الرياضة، وليجدوا في الكحول ملاذهم، فرصتهم لاستعادة شبابهم وحماستهم وإقبالهم على الحياة، بعد أن دخلوا نفق رتابة الحياة وتشابه الأيام، والحب ما عاد حباً، كما هو مارتن (مادس مكلسن) وهو يدرّس صباحاً في المدرسة بينما تعمل زوجته ليلاً، ولا يلتقيا إلا لأقل من ساعة في اليوم.

 ينجح مارتن ورفاقه من خلال الكحول بأن يعودوا أساتذة بحق يقدمون دروسهم بروح إبداعية عالية، وقد باتوا يحتسونه قبل إعطائهم الدروس وفي أثنائها، ولينعكس ذلك إيجاباً أيضاً على سائر حياتهم العاطفية والنفسية وغير ذلك، ناجحين تماماُ بتجسيد استهلال الفيلم: “ما هو الشباب؟ حلم. ما هو الحب؟ مضمون الحلم”.

إقدام هؤلاء الأساتذة على ما تقدم يأتي في سياق تجربة يحتسبون فيها نسبة الكحول في دمائهم بدقة (وقد صاروا مثل همنغواي الذي كان يشرب الكحول صباحاً ولا يتوقف حتى الثامنة مساء، ولا يحتسي أي شيء منه في عطلة نهاية الأسبوع) ويسجلون أحاسيسهم، ومنجزاتهم، وعليه يصبح سرد الفيلم قائماً على ذلك، وتصاعده الدرامي هو تصاعد كحولي، فمع تجاوز النسبة سابقة الذكر تتصاعد المتغيرات ويتحسن الأداء التعليمي، ومع تجاوزها بنسب أكبر بكثير ينفلت الأساتذة من عقالهم، خاصة حين يقررون تجرع أنهار من الكحول منذ الصباح حتى مطلع فجر اليوم التالي.  

إنه فيلم متقد بالحياة، مأخوذ بها، تبحث شخصياته عن سبل لاستعادتها مشرقةً يتجاور فيها العطاء مع اللذة، بما يقتل الروتين والرتابة، فيجدون في الكحول ضالتهم بمنتهى الوعي والتجريب والتطلع، وبما يقود إلى حضور أكبر وأجدى في الحياة مع إدراك تمام بمخاطر الإدمان أو الكحولية، وحضور الانتحار لكن بوصف هذا الأخير ملمحاً من ملامح الحياة أيضاً، “فما العيش” كما أخبرنا أبو نواس “إلا سكرةٌ بعد سكرةٍ، فإن طال هذا عنده قَصُرَ الدهر/ وما الغبن إلا أن ترَاني صاحياً، وما الغُنمُ إلا أن يتعتعني السكر”.

 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.