لا يمكن للرسوم حين تطفو على الشاشة إلا أن تفرض نفسها بقوة، خصوصاً حين تأتي من رسام بعينه، أسلوبه باد بقوة، ولا مجال للشك بقوة الخطوط المتناغمة تماماً مع قوة الدراما التي يقدمها. البدء هكذا لن يكون إلا انطباعاً أولياً سرعان ما سيتعزز بقوة لدى مشاهدة فيلم السنغافوري اريك كوو Tatsumi تاتسومي. إنه فيلم يتزواج فيه الرسم مع الفن السابع، وفي تتبع لخصوصية ذلك الرسم وحضوره الطاغي في الثقافة اليابانية، ولعله فرصة أيضاً لوضع «الكوميك» الأميركي والأوروبي جانباً والتنعم بـ”المانغا” اليابانية.
يقول الرواي في “تاتسومي” مع بداية الفيلم: “مطر أسود انهمر من السماء، استقر هذا المطر في قلبي” ، هذا المطر الأسود لن يجد من مدينة ليهطل عليها إلا هيروشيما، وهذا ما حدث في الثامن من أغسطس عام 1945 بعد إلقاء القنبلة الذرية الأميركية على تلك المدينة، ونحن نشاهد ذلك أمامنا على الشاشـة مرسوماً بخطوط مدهشـة، وبما يدفع للاعتقاد أننا أمام فيلم تحريك عن هيروشيما، لكن مهلاً! ليس هـذا إلا قسماً صغيراً من الفيلم، تذكـروا عنوان الفيلم، إنه الاسم الثاني للرسام الياباني يوشيهيرو تاتسومي (صور هذا العدد من رسومه).
سأكمل قصة هيروشيما أولاً، ومن ثم أتحدث عن مجمل الفيلم، فهذا الذي أصبح قلبه مبللاً بمطر أسود لن يفارقه طوال حياته، ليس إلا مصوراً عسكرياً طلب منه بعد الدمار المروع الذي حل بهيروشيما أن يوثقه بالصور، وهذا ما فعله بينما ينهمر المطر الأسود، ستكون الرسوم بالأبيض والأسود، والميل أكثر للسواد وتدرجات الظل التي تعطينا انطباعاً كابوسياً، سيلتقط المصور الكثير من الصور، ستتزاحم الدموع في عينيه، لكن أكثر ما يدميه سيكون عثوره على صورة ظل لأمرأة وابنها مطبوعة على جدار، يقوم فيها الابن بتدليك الأم، فمن شدة القنبلة فإن ما تبقى من الضحايا ليس إلا ظلالها.
تلك الصورة التي سينشرها بعد خمس سنوات ستهز العالم، ستجعل من مصورها شخصية عامة معروفة حول العالم، لا بل إنه سيتولى من وراء تلك الصورة رئاسة جمعية تسعى إلى منع استخدام السلاح النووي وتتولى نشر ثقافة مناهضة لتلك الأسلحة حول العالم، وسيجري تجسيد تلك الصورة في نصب تذكاري ، لكن سرعان ما سيظهر الابن الذي يفترض أنه قتل بينما كان يقوم بتدليك أمه، إنه حي يرزق، والصورة ليست إلا صورة صديقه وهو يحاول خنق أمه بالتواطؤ مع ذلك الابن.
عنوان هذه القصة «جحيم» وهي واحدة من خمس قصص غرافيكية ستحضر في سياق الفيلم، وهي: “قردي الحبيب”، و”رجل بمفرده”، و”مشغول”، و”وداعاً” والتي ستمضي جنباً إلى جنب مع سيرة يوشيهيرو تاتسومي وتنقلاته في رسم «المانغا»، ومن ثم انعطافته في اكتشاف “جيكيجا” أي الرسوم الدرامية الغرافيتية التي تخص الكبار، وعلى شيء يجعل من تلك القصص الخمس نماذج عما يصنعه تاتسومي، وعليه نشاهد قصة من تلك القصص ونتابع مع مسار حياة تاتسومي وتغيراته الفنية، ولنكون في النهاية أمام فيلم تحريك رائع، لكل قصة من القصص أن تحمل أصالة على صعيد الرسم والدراما التي تقدمها، بينما تأتينا حياة تاتسومي برسوم ملونة ومساحة لضبط الرسام متلبساً وهو يصنع ما نراه، إنها عوالم ورسوم تاتسومي كما يحركها إريك كوو.