المونتاج أثناء كتابة النص الأدبي
العدد 157 | 08 آب 2014
قيس الزبيدي


:حلقة جديدة من سلسلة مقاربات قيس الزبيدي لكتابة السيناريو في هذه الزاوية السينمائية، وليتناول في هذه الحلقة علاقة الكتابة بالمونتاج

حينما كان إيزنشتين يدرس الإخراج السينمائي في معهد السينما في موسكو ويلقي محاضراته على الطلبة ، وقتها سأل تلميذه نزني، الذي كان يقوم بتدوين محاضراته، عن رأيه في طريقته في التدريس، فأجاب نزني، والطلبة مندهشون، إن طريقته التي يلقي فيها دروسه ويشرح فيها الحلول الإخراجية هي من السهولة بمكان. فابتسم وقتئذ إيزنشتين وعلق:”أي سهولة؟ وأنا أسهر الليالي حتى استطيع أن أحضّر الدروس التي القيها عليكم”.

السينما هي أولا وقبل كل شيء المونتاج. ايزنشتين

لماذا أعطى إيزنشتين كل هذه الاهمية للمونتاج: المرحلة الأخيرة في الفيلم! في الواقع ان إيزنشتين، حسب يوتكوفيتش، لم ينطلق فقط من مبادئ الإخراج إنما أيضا من المبادئ الخاصة بالبنية الدرامية وذلك حينما كان، قبل التصوير ، يجهز قائمة مونتاج لكل مشهد ومن ثم يبدأ، بعد التصوير، عمله على طاولة المونتاج في معالجة كل مشهد، كما يفعل أحسن درامي، لكنه وصل مع مريديه، إلى استنتاج خاطئ، حينما حاولوا أن يسنّوا من الحدث قانونا دون معرفة قوانين جوهر الحدث، إلى درجة عدَّ فيها إيزنشتين المونتاج الوسيلة الوحيدة السحرية المؤثرة، التي تصنع الفيلم. وبهذا أغفل دور السيناريو وأخذ يعتقد، كما لو أن تجسيد الشكل الكامل للفيلم، يتم بشكل موضوعي، في مرحلة المونتاج النهائية”.

وكان هناك من يرى السيناريو الأدبي أساس الفيلم السينمائي : المرحلة الأولى في الفيلم. ونحن إذ نتحدث هنا عن مرحلة كتابة السيناريو الأدبي علينا أن نبحث جدليا العلاقة بين الاثنين؟ بما أن المونتاج هو من ناحية بنيوية، علاقة كل شيء ( كل عنصر فني) بكل شيء (بكل عنصر فني)، فيتوجب علينا ألا نرى فيه المرحلة الأخيرة في الفيلم. وقد سبق للناقد الروسي سيمون فرايلش أن كتب بشكل صائب: “يخضع المونتاج ودراموتورغيا السيناريو، أي درامية العمل الكلية، فيما بينهما، إلى علاقة جدلية. فالمونتاج يعطي الدراماتورغيا شكلها النهائي، بينما تحدد دراماتورغيا السيناريو،أصلا، الحلول المبدئية للمونتاج اللاحق”. ماذا يعني ذلك؟ يشتمل التقطيع والتركيب” – المونتاج” على جانب حرفي وجانب فني ويعتمد على مرحلة بناء مضمون اللقطة وربطها مع اللقطات الأخرى. ويتم تنفيذ ربط اللقطات عن طريق التوليف، أما بناء المشاهد دراميا فيتم عن طريق المونتاج، و تبدأ عملية المونتاج قبل التصوير، وبما أن عملية المونتاج ترتبط أكثر من ذلك ببناء الفيلم فإنها يمكن ويجب أن تبدأ بموازاة عملية بناء مراحل الفيلم المتعددة.

يصاحب مبدأ المونتاج فكرة الفيلم الفنية الأساسية منذ العثور عليها ويستمر معها ويوازيها لحين إنجاز عملية الفيلم النهائية. وهذه المرحلة لا تتم بنجاح إلا بتعرف كاتب السيناريو على قواعد المونتاج واصوله. وتدلنا نظرية تاريخ السينما أن غرفث تعلم المونتاج المتوازي بشكل خاص من روايات ديكنز، وأن كوليشوف توجه في البداية نحو المونتاج أولا بتأثير أفلام غرفث وثانيا بتأثير الأدب الروسي: أدب تولستوي وبوشكين. ففي كتابه “قواعد الفيلم” يتناول كوليشوف مقطعا أدبيا لتولستوي يتحدث فيه عن المونتاج ويسميه الترابط ويذكر فيه أمثلة مدهشة من دون أن يعرف شيئاً عن السينما، لأن السينما وقتئذ لم تكن موجودة. واستنبط بودفكين وايزنشتين أصول المونتاج من دراستهما للأدب الروسي، فقد استخدم بوشكين المونتاج في قصائده، وتمكن إيزنشتين أن يكشف كتابة بوشكين لقصائده على شكل ديكوباج سينمائي حقيقي.

يذكر نجيب محفوظ أن ما دفعه للاهتمام بالسينما قادم من دعوة طه حسين في مجلة «الكاتب المصري» كبار الأدباء إلى الكتابة للسينما، لكي لا تقتصر هذه الكتابة على كتاب لا يرتقون إلى مستواها، خصوصاً أن للسينما جمهوراً يفوق عدده جمهور قراء الأدب. وبدأت علاقته بالسينما مع المخرج صلاح أبوسيف الذي كان أول من كلفه بكتابة سيناريو فيلم «مغامرات عنتر وعبلة»، وعلّمه كيف يكتبه على مدار جلسات متواصلة، ووضع بين يديه بعض الكتب عن فن السيناريو ليتعلم منها أيضاً.واستطاع عندئذ أن ينجز مهمته بنجاح. وأصبح أول كاتب مصري يحترف كتابة السيناريو وينضم إلى نقابة المهن السينمائية.

يرى ماركيز في كتاب ورشته «كيف تُحكى حكاية» أن هناك مناهج كثيرة لكتابة السيناريو، لكن كل حكاية تحمل معها تقنيتها، والمهم بالنسبة لكاتب السيناريو أن يكتشف تقنيتها الخاصة. ويجد أن الورشة لعبة: «ندرس فيها ديناميكية الفريق مطبقة على الإنتاج الفني، إنها عملية ومضة ذهنية تطبق على قصة، على فكرة، على صورة على أي شيء يتحول إلى فيلم. وهكذا أصبحنا نرى، من خلال النقاش، كيف أن جميع هذه العناصر تتجمع فيما بينها وتتكامل مثل لعبة «القطع التركيبية».

وتعلم سيد فيلد بدوره أن يخلق حوادث محددة، ويربطها معاً بمشاهد ومقاطع سينمائية، لأنها تشكل وحدات منفردة من الحدث الدرامي: “تلك كانت نقطة انطلاقي، أستعرض الأفلام التي شاهدتها والسيناريوهات التي قرأتها، وأكون قد قلّصت سؤالي إلى أبسط مكوناته: ما هي البنية؟ كيف لي أن أعرّفها؟ وجدت في القاموس تعريفات متعددة، لكن اثنين منها بدوَا مناسبين لما كنت أسعى لوضعه في كلمات: الأول: “أن تَبْني، أو أن تُركِّب. والثاني: علاقة الأجزاء مع الكل”. خلقت أبحاث كوليشوف وبودوفكين و إيزنشتين شكلاً مختلفاً للسينما وأسست الأساليب المختلفة في فن المونتاج التي يتبعها الموّلفون هذه الأيام للوصول بالفيلم إلى شكله النهائي. كانت أعمال بودوفكين تقف بموازاة أعمال إيزنشتين ومع أنهما عاشا في خلاف ونقاش دائم وخلاّق إلا إن تأثيرهما المنفرد والمشترك في تاريخ السينما المعاصرة ما يزال يفعل فعله في الممارسة والنظرية، كما إنهما، وبتأثير غرفث أيضا، والى جانبه يتوغلان ويؤثران حتى اليوم في نسيج السرد الفيلمي عند من يمارس صنعة الفيلم في العالم. من هنا يصبح من الضروري أن يتعرف كتاب السيناريو الادبي على أهم قواعد وطرق المونتاج وهذا ما سنفعله في المرة القادمة؟


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."