حول التلاعب
العدد 187 | 07 شباط 2016
قيس الزبيدي


“الكتب: كتبٌ تتكلّم عن كتب”. 

أمبرتو إيكو

 

لم تعد ثمة طقوس للموت، وبالتالي لم نعد نحسن البكاء، لا على مصائب الدنيا ولا على مصائبنا الشخصية. فرانسواز غيلار (عالمة اجتماع)

 

يهمنا في هذه الدراسة ان نتوغل بعمق في موضوع مهم للغاية  لنلقي الضوء على موضوع التلاعب والتضليل عبر الصورة وذلك بالرجوع الى مصادر عديدة مختلفة تناول كل منها جانباً من جوانب ما يسمى اليوم حضارة الصورة أو الطوفان البصري. لعلنا نقترب من الاسباب التي تقف حقيقة خلف اشكالية شعورنا بتهديد الصور، فنحن نعيش، حقيقة، في قلب إشكالية لا تخلو من الغرابة: من جهة نقرأ الصور بطريقة تبدو لنا “طبيعية” للغاية ،لا تتطلب، في الظاهر،أي مؤهـّلات خاصة، ومن جهة ثانية نخال أننا نخضع، بطريقة لا واعية أكثر منها واعية، لدهاء كل أولئك الذين يسعون إلى “تضليلنا”، من خلال إغراقنا بصور، تبدو للوهلة الأولى بريئة، لكنها في الحقيقة، تحمل ترميزها الخفي، الخاص بها، ويلعبون بذلك على العقول. 

ان الحواة والسحرة لديهم مبدأ أول، يتمثل في جذب انتباه من يشاهد ما يلعبونه، نحو شيء آخر غير ما يرونه.ويشدّد بيير بورديو، في كتابه «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول» على إن التلفزيون يعرض أشياء يتم إخفاؤها، عبر عرضها بوساطة شيء آخر لا يجب عرضه، أو حينما يجب عرضه، يعرض بطريقة لا تسمح بعرضه، أو يجعل من عرضه، عرضاً غير ذي معنى، أو يعيد تركيب عرضه، بحيث يأخذ معنى لا يتطابق مع حقيقته! 

قال أفلاطون “إننا مجرد دمى في يد الآلهة”. ويجد بورديو أن عالم التلفزيون يجعل من يقطن فيه، ومن يجاوره دمى، في قبضة صورته الاستثنائية التي تجعل مشاهدة من كل ما هو عادي، يشاهد كشيء فوق-عادي، وتجعل من كل ما هو عادي، يشاهد كشيء أكثر من عادي. ويحاول الكاتب عبر أمثلة كثيرة تحليل صورة التلفزيون، والكيفية التي يعرض فيها ما يسميه نقاد الأدب «تأثير الواقع» لتبدو الأشياء لمن يشاهدها، كما لو أنها حقائق الواقع نفسه. 

يحلل لايناسو رامونه أزمة  الإعلام المعاصر  ويكشف عن سطوة صورة التلفزيون التي أصبحت تصنع لأي حدث، وجهاً مرئياً قابلاً للبث وكيف أن الخبر يبث مدعوماً بالصور،  ليصبح تأثيره أقوى من أي خبر مهم الذي لا تبث صوره.

بدأ الاعلام يستعمل الصورة ويجعلها عرضة للتضليل  والتلاعب، وهو شعور لطالما يخشاه المشاهد ويثقل كاهله. ولكي نتجاوز بقدر ما التجارب التي يمارسها الاعلام بالذات ونثق بأننا لسنا، إلى هذه الدرجة، فئران تلك التجارب، التي نخشى أحياناً أن نكون نحن هذه الفئران. وبدأت الصورة في التلفزيون، تحديدا، تعيد كتابة خارطة الإعلام ووسائل الاتصال المعاصر، وأخذت المعلومة تصبح بين أيدي أباطرة الاحتكارات سلعة رائجة تخضع لقوانين السوق وتحول الاتصال إلى طاغوت يسيطر على آليات التلاعب بعقول الناس والمجتمع المعاصر. 

يلاحظ عبد العالي معزوز في “فلسفة الصورة“أن عالمنا المعاصر تكتسحه التقنيات الالكترونية والمعلوماتية في مجال الممارسة الفنية والابداعية على نحو غير مسبوق. فاذا ما القينا نظرة الى التقنيات البصرية الجديدة فما يسترعي الانتباه هو طفرة هائلة في التقنيات البصرية منذ ظهور الصورة الفوتغرافية والصورة المتحركة والصورة المباشرة وصورة الفيديو والصورة الرقمية. ورافق هذه الطفرة انتشار وذيوع واستهلاك انواع كل هذه الصور في طوفان بصري على نطاق واسع بفضل تطور تقنيات البث التلفزيوني والنقل الفضائي عبر الاقمار الصناعية لدرجة اخذت الصور تحاصرنا فاينما اتجهنا فثمة صور ولا شيء غير الصور واصبحنا امام اشباه الاشياء لا الاشياء، اشباه الموضوعات لا الموضوعات، امام مساحيق الواقع لا الواقع العاري، بحيث يصبح الواقع ضحية واقع اعلى ليس فيه فرق واضح بين ما هو حقيقي وما هو زائف، فقط حضور الشبه والشبيه. 

أغلب هذه التلاعبات، تتم بفضل ما يسمى عمليات التحويل. وهي تحويلات رقمية تـُعالـَج بها الصورة  “الحقيقية”، بعد نقلها إلى شكلها الرقمي، بما يسمح بالتلاعب  بالصور، بتشكيلات  لا حصر لها، ويضع بين يدي السينما والإعلان والڤيديو كليب، إمكانات “مذهلة”. بيد أنها لا تقدم الكثير في ميدان الإعلام.      

ولا عجب أن يطلق اسم  “المزوِّر الرقمي” على الحاسوب، الذي يقوم بإنتاج كم هائل من المؤثرات الخاصة، قد نتمكن من كشف بعضها، لكن البعض الآخر يستعصي على الملاحظة. ففي عالم الاطياف وعالم نسخ النسخ يتلاشى الواقع تحت الانظار من فرط التناسل اللانهائي الى ما يمكن الحديث عن صنمية الصورة بدل الحديث عن صنمية السلعة وتحول الاقتصاد المادي للسلع الى الاقتصاد اللا مادي للصور في ظل الراسمالية المتطورة ، بحيث اصبحت الحدود تنهار بين الواقع والوهم، بين السطح والعمق. وهكذا انتقلنا عمليا من رأسمالية السلعة الى رأسمالية الصورة والمعلومة. 

تقف وراء شبكات التلفزيون أسماء أسر وأفراد وشركات صناعية ومالية كبرى تهيمن عليه، وتروّج بوساطته لمصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية. ومهم معرفة أن شبكة إن. ب. إس مملوكة لشركة جنرال اليكتريك، وشبكة سي.بي.أس مملوكة لشركة وستنغهاوس، وشبكة أي.بي.سي مملوكة لشركة ديزني، والقناة الأولى الفرنسية مملوكة لشركة بويغ، ويقف إمبراطور الميديا روبرت مردوخ وراء ملكية ليس فقط كبرى الصحف الانجليزية إنما أيضاً وراء ملكية شبكات التلفزيون وقنوات البث عبر الأقمار الاصطناعية، ويجسد مثل هذه الظاهرة سيلفيو بيرلسكوني في إيطاليا.(1)

 والغريب في كل تقنيات الاتصال الجماهيري كونها لا ترسل رسائل بقدر ما تحث على استهلاك الرسائل ذاتها. ان رسالة التلفاز ليست الصور التي يبثها بل الانماط الجديدة للعلاقة وللإدراك التي يفرضها وحسب تعبير بوديار تصبح الرسالة نفسها استهلاك الرسالة. 

أصبحت الصورة تحديدا في وسائل الاتصال اهم وسيط مما يستدعي تفكيرا فلسفيا في ابعادها وأنظمتها ورهاناتها. وما الادوار التي تقوم بها وما الصراعات التي تثوي خلفها سوءا كانت ايديولوجية او لاهوتية. من هنا نرى كيف تجتهد  مارتين جولي في “مدخل الى تحليل الصورة” في أغلب فصول كتابها في تبيان منهج تحليل الصورة في المقام الأول. أنطلاقا من ان المنهج يفترض وجود «رغبة حقيقية لدى الإنسان، بألا يترك نفسه عرضة للانخداع  بسهولة»، فليس بالأمر السهل أو الفطري، وينبغي أن يـُفهم على أنه «أشبه بالسباحة ضد التيار، باتجاه أعلى المجرى، نحو مشارف “منابع” الرسالة، باتجاه عالم “ما قبل الرسالة” حيث يتم تهريب مؤثرات المعنى والتلاعب بها. ويتضمن الما قبل الرسالة هذا، أيضاً التحليل الذي نتطلع إليه؛ أي مراعاة مسألة رفضه أو حتميته، غاياته ووظيفته، وهي المسائل التي تحدد أدواته.

ويبدو أنه، لتحليل رسالة ما، علينا، بادئ ذي بدء، أن نضع أنفسنا في المكان الصحيح، الذي ينبغي أن نكون فيه، أي في جانب الاستقبال أو التلقي، وهذا، بالطبع، لا يلغي ضرورة دراسة تلك الرسالة، دراسة تاريخية. لكن علينا أيضاً، أن نترك لأنفسنا حرية الفهم، وألا ندع حججاً تقويمية، مشكوكاً في دقتها، تقف حائلاً بيننا وبين هذا الفهم.لأن عمل المحلل ينصب، تحديداً، على فك رموز الدلالات، التي تختبيء خلف الوهم بـ”طبيعية” الرسائل البصرية. والمفارقة أن هذه الـ”طبيعية” بالذات، هي ما يثير الريبة، وبعفوية تامة، لدى أولئك أنفسهم، الذين يرونها بديهية وواضحة، عندما يخشون من أن يكونوا ضحية لـ ” تلاعب” الصور. 

وإذا قالت التلفزة عن شيء ما يتعلق بحدث ما أنه صحيح، فسيتم الإقرار بصحته، حتى ولو كان كاذباً، لدرجة تجعل معنى الصورة لا يعني شيئاً من دون تفسيره بمفتاح: مفتاح يقول ما يجب أن يقوله لكي يقرأ كما تجب قراءته! فنحن اذ نعتقد مشاهدة العالم كما هو بينما نحن نشاهده على نحو ما يقدم لنا، فليست العين المجردة هي التي تنظر او ترى وإنما في كثير من الاحيان تنظر الى ما يراد لها أن تراه او تنظر اليه. 

فمنذ أن تسلم التلفاز السلطة وأصبح يشكل الوسيط الإعلامي الإخباري الأول،يقررأهمية الخبر ويحدد مواضيع الأخبار ويملي المعيار ويجبر ويفرض نظامه ويجبر وسائل الإعلام الأخرى على اللحاق به وتقليده، فهو الوسيلة الأسرع والأكثر قدرة تقنياً على بث صور آنية بسرعة الضوء. وفق مبدأ: أن التلفزيون وسيلة لنشر الحقائق، و”إذا كان الانفعال الذي يحسه المشاهدون صحيحا، فان الأخبار صحيحة”. فالصورة القوية تطمس الصوت وتغلب العين على الإذن، لا صورة تعني لا حقيقة.

«يكفي الآن أن ترمي خبراً ما حتى يتناقله الجميع. » هذا ما يؤكده بونوا ديليبين، أحد الذين ساهموا في برنامج قناة بلوس الشهير دمى الأخبار:  «كنت أعتقد أنني أعيش في مجتمع مطّلع إعلامياً، لكن تبين لي أن الإعلام يتقولب وفق تكتيكات إغوائية تلهينا لا محالة عن الحقيقة. » فما إن يقع حدث ما في مكان ما، حتى تتصل بأي شخص (كائناً من كان) يتواجد في ذاك المكان  ليقول ما لديه. حتى ولو كان ما يقوله غير كافٍ، حتى لو كان كذباً، حتى لو كان إشاعة. المهم ان المتكلم موجود في مكان الحدث، وفي هذا ضمان للوثوقية، لإنه شاهد “حقيقي” وهذا يكفي. ومن طريف الصدف أن الأصل اليوناني لكلمة “شاهد” يحمل معنى “ضحية“!  

ها هي رسالة الصورة أمامنا : لنتأملها ولنتفحصها، لنفهم ما تثيره في دواخلنا، ولنقارن بينها وبين سواها من التأويلات.أن أي تأويل للنص، يفترض وجود تفاعل مسبق، بين قوانين داخلية، وأخرى خارجية عنه (من مثل قوانين إنتاجه وتلقيه). لكنه يفترض أيضاً، وجود «تجربة سابقة، يندرج ضمنها الإدراك الجمالي». معنى ذلك أن العمل، حتى لحظة تبدّيه، لا يقدم نفسه البتة، كنتاج «جديد مطلق لا سابق له، نبت في صحراء جرداء، لم تعرف أية معلومة، بل كلنا يعلم أن جمهوره مهيأ سلفاً، وفق نمط معين من التلقي، أقله، من خلال طيف واسع من الإعلانات، والعلامات – الصريح منها أو المستتر – والمرجعيات الضمنية، والمواصفات المألوفة. 

 

عندما نعرض مثلا على شاشة التلفاز، مقابر جماعية في رومانيا، ويقال لنا أنها في مدينة تيميشوارا. ثم نعلم فيما بعد زيف ذلك، وأن هذه المقابر الجماعية، لم تكن في تيميشوارا، فإن التباعد يكون مرفوضاً تماماً، لأنه خرق لشرف ومواثيق المهنة الإعلامية. وهكذا نرى أن المشكلة إنما تكمن، حقيقة، في العلاقة بين اللغة الكلمية والصورة، وليس في الصورة بمفردها: فلو اقتصر الأمر على رؤية صور مقبرة جماعية، لبقيت صور مقبرة جماعية، وانتهى الأمر. إن الصورة بحد ذاتها، سواء كانت صورة إعلامية أم “فنية”، «لا تكون صادقة ولا كاذبة». وهو ما عبر عنه ارنست غومبريش Ernst Gombrich،  في حديثه عن فن الرسم. لكن مدى التوافق أو اللا ـ توافق، بين شكل العلاقة صورة / نص، وبين ما يتوقعه المشاهد، هو الذي يمنح صفة الصدق أو الكذب.

بيد أن الصورة “الافتراضية” ليس بالامر الجديد. إنه يعود إلى علم البصريات، ويعني الصورة(الخيال) التي تشكلها امتدادات الأشعة الضوئية : صور (أخيلة) تتشكل جهة المنبع أو في المرآة، على سبيل المثال. إنها منذ القدم صور أساسية في تاريخ الفنون، ذات قدرة تخييلية بالغة وشديدة التأثير. لكننا لا يمكن أن ننسى أن نارسيس، وأليس، أو أورفيوس هم وحدهم، حتى الآن، الذين انتقلوا إلى الجهة الأخرى من المرآة.

كان غودار، في البداية، يرى إن الصورة السينمائية هي 24 حقيقة في الثانية، أما بريان دي بالما، فعاد ووجدها 24 كذبة في الثانية، ويبدو أن الصورة التلفزيونية صارت الآن، نتيجة لكل هذه التحولات الكونية، 25 كذبة في الثانية. وبهذا الصدد يقول برايان دي بالما: “ثمة صدمة نفسية قديمة واجهها جيلنا، وهي أشبه بجملة اعتراضية تبدأ باغتيال كينيدي، وتنتهي بحرب فيتنام. لاحظنا طوال تلك الفترة، أنهم كانوا يكذبون علينا. لا أدري إلى أي مدى، لكن المهم في الأمر أننا كنا ندخل عصر الشك. لم يعد في مقدورنا أن نصدق ما نشاهد ولا أن نتقبل ما يُروى لنا”. 

المصادر

بيير بورديو. «التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول» دار كنعان/ دمشق/2004 ترجمة/ درويش الحلوجي

ايناسو رامونه. “الصورة وطغيان الاتصال”/2010. الهيئة العامة السورية للكتاب/2010 ترجمة/ نبيل الدبس 

عبد العالي معزوز. فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل. افريقيا الشرق.المغرب/2014

مارتين جولي. “مدخل إلى تحليل الصورة” (الفن السابع (249) المؤسسة العامة للسينما. دمشق /2015) ترجمة/ نبيل الدبس


مخرج ومصوّر وباحث سينمائي. رائد من رواد السينما التسجيلية العربية، من أفلامه التسجيلية: "بعيداً عن الوطن""، و""فلسطين سجل شعب""، و""شهادة للأطفال الفلسطينيين زمن الحرب""، و""وطن الأسلاك الشائكة"". وقدّم روائياً ""الزيارة"" 1970 وهو فيلم تجريبي قصير، و""اليازرلي"" 1974 فيلم روائي تجريبي طويل عانى من لعنة الرقابة أينما عرض. من كتبه: ""فلسطين في السينما""، و""المرئي والمسموع في السينما""، و""مونوغرافيات في تاريخ ونظرية الفيلم""، و""مونوغرافيات في الثقافة السينمائية""."