“وحدهم العشاق ما زالوا على قيد الحياة”..”الفامبيرز” وأدوات الخلود
العدد 158 | 04 أيلول 2014
زياد عبدالله


السيد جيم جارموش بخير، ومازال “أغرب من الجنة” كما عنوان فيلمه الأول والمفصلي في تاريخ السينما الأميركية المستقلة، لا بل إنه وفي العام الماضي وقع على آخر المتبقين من معشر مصاصي الدماء “الفامبيرز” وقد بلغت أعمار بعضهم أكثر من خمسة قرون، لا بل إن الشاعر والكاتب المسرحي كريستوفر مارلو ما زال على قيد الحياة وهو  يعيش في طنجة، وجميعم يعيشون حياة مسالمة في القرن الواحد والعشرين، الذي توقفوا  فيه عن غرز أنيابهم في أعناق البشر ومص دمائهم، بل صاروا يلجؤون إلى أطباء أو صيادلة يهرّبون إليهم حصتهم الغذائية من الدماء البشرية من مخابر التحليل.

في ذلك ملامح مما تأسس عليه فيلم جارموش Only Lovers Left Alive “وحدهم العشاق ما زالوا على قيد الحياة” 2013، والناظم الرئيس لقصة الفيلم هو الحب أو العشق الذي يبقي آدام (توم هيلدستون) وايف أو حواء (تيلدا سوينتون) على قيد الحياة، وهنا الحب الذي يجمع بينهما يكاد يكون أزلياً ولم يطلهما موت وقد مرت قرون عليه. وإن كان للفيلم أن يمضي في البداية بين مدينتين هما ديترويت حيث ما عاد أحد يسكنها، وحيث يتواجد آدام في بيت منعزل لائق بمصاص دماء “سابق”، وطنجة حيث ايف التي نقع عليها تمضي عابرة الأزقة إلى أن تصل إلى مقهى “ألف ليلة وليلة” حيث تلتقي كريستوفر مارلو (جون هارت) والذي سيكون مصدرها في تأمين حصتها الغذائية من الدم، بينما يحضر آدام حصته من الدم من مخبر  في مستشفى يدخلها متنكراً بزي طبيب اسمه “الدكتور فاوست” كما هو فاوست مارلو ومن ثم غوته الذي باع نفسه للشيطان، وهكذا فإنهما سيلتقيان من جديد حين تمضي ايف إلى ديترويت.

ما من منعطفات درامية في البداية، والتي تأتي في الربع الأخير من الفيلم مع دخول ايفا (مايا واسكافسكا) والتي ستخرق ما استقرت عليه حياة كل من آدام وايف. الجماليات في الفيلم متأتية من الشخصيات أولاً، ومتابعة ما نشاهده من لقطات ومشاهد يكون قادماً من فتنة ما تكون عليه شخصيتا الفيلم الرئيستان، وليس اكتشاف أنهما من مصاصي الدماء بأمر يغير كثيرا من هذه الفتنة، فالغرائبية هنا لا تطمح إلى الدفع بالمشاهد نحو تشويق ما، لا بل إن الفيلم مشغول بأسئلة جمالية وانسانية عميقة، كالخلود مثلاً، ولتمسي قصة الحب في الفيلم معبراً لمعاينة مفهوم الخلود، وحينها يمسي الحب أيضاً شغفاً بالأشياء، التي تمسي أدوات هذا الخلود، وذلك كامن أساساً في الكتب والموسيقا، حيث يفتح الباب على الموسيقا مع آدام المهووس بالروك وأنواع أخرى من الموسيقا، وصلة وصله مع العالم الخارجي تكون من خلال أيان (أنطوان يلتشين) الذي يحضر إليه آلات موسيقية نادرة (الغيتارات بشكل خاص) التي يكفي أن يمرر يده عليها حتى يعرف سنة صنعها، ومن عزف عليها في حقب زمنية متعددة، وآدام ليس إلا موسيقي “روك”، بينما يكون شغف ايف كامناً في القراءة والكتب، وهي حين تكون في طريقها لأن تغادر طنجة إلى ديترويت لا تحمل في حقيبتها إلا الكتب وبكل لغات العالم، التي تقرأها بسرعة خيالية.

لا يكمن خلود الكائنات الفانية إلا بالفن، والشغف به جنباً إلى جنب مع الحب بين الرجل والمرأة، ولعل “الفامبير” في فيلم جارموش متواجدون ليقولوا لنا ذلك، ويمكن لكونهم بشراً وليسوا بشراً في الوقت نفسه أن يكون حاملاً لما يريد جارموش أن يقوله، ولأنهم عشاق ويجدون في الشغف بالفن ملاذهم ما زالوا على قيد الحياة. 


كاتب من سورية. مؤسس مجلة أوكسجين ومحترف أوكسجين للنشر. صدرت له العديد من الروايات: "سيرة بطل الأبطال بحيرة الانكشاري ومآثر أسياده العظام (1984 هـ)" – (2019)، و"كلاب المناطق المحررة" (2017)، و"ديناميت" (ط1: 2012. ط2: 2018)، و" برّ دبي" (ط1: 2008. ط2: 2018). وله في القصة القصيرة: "سورية يا حبيبتي" (2021)، و"الوقائع العجيبة لصاحب الاسم المنقوص" (2016). كما صدر له شعراً: "ملائكة الطرقات السريعة" (2005)، و"قبل الحبر بقليل" (2000). من ترجماته: "محترقاً في الماء غارقاً في اللهب-مختارات من قصائد تشارلز بوكوفسكي" (2016)، و"طرق الرؤية" لجون برجر (2018)، و"اليانصيب وقصص أخرى" لشيرلي جاكسون (2022). وله أيضاً كتاب مختارات من التراث العربي بعنوان "الإسلام والضحك- نواضر الخاطر في كل مستطرف باهر" (2018)،  و"لا تقرأ هذا الكتاب إن لم ترَ من السماء إلَّا زرقتها" (2023) الصادر عن محترف أوكسجين للنشر.