كومة مكدسة من الورود لن تصبح إلا بؤرة إزعاج بصري مهما كان جمال بعضها أو كلها، كذلك الدراما لا تدار بما تحتويه من دهشة أو جمال؛ بل بكيفية إدارتها لذلك، فأكثر ما يميز المحترف من الهاوي قدرته على التخلص من الزيادات المجانية المشتتة والمهدرة للطاقة والوقت، وهو ما لم ينج منه المخرج خالد يوسف رغم احترافيته في فيلمه الأخير ” كارما” بعد غياب سبع سنوات، الذي كتبه بالاشتراك مع السيناريست محمد رفيع ، فقد وضع في فيلمه خليط حبكات منها الرئيسي ومنها الفرعي.. منها الخطي المرتب زمنيا ومنها غير الخطي ، وعددا من الانقلابات الدرامية وخليط أجناس فنية مع خليط أفكار ومعان ضمنية كانت أو مباشرة وعظية..اجتماعية اشتراكية كانت أو فلسفية وسياسية وروحية ..كلها في سلة واحدة ولينتق المشاهد ما يريد.
شخصيتان لشخص واحد يؤديهما عمرو سعد، أحدهما ثري مسلم “أدهم المصري” والآخر فقير مسيحي “وطني”، يسير عالماهما في خطين سرديين متوازيين، يحيا الأول في مظاهر واضحة من البذخ في حي راق والآخر في حارة عشوائية ضيقة بكل مظاهر الفقر، أجاد تقديم تفاصيل مظاهرها الداخلية والخارجية مهندس الديكور فوزي العوامري. اختار الفيلم لمشهده الافتتاحي طائرة خاصة تحلق في السماء يطل منها “أدهم” على القاهرة ونيلها بلقطات فوقية بانورامية، تربط فكرة العلو بإيحائها بالتباعد والتعالي الطبقي بهذه المدينة، يحلم كل منهما بالآخر وعالمه بشكل يدخلنا في احتمالات ميتافيزيقية فانتازية أو نفسية بشكل ملغز مشوق بذاته، وهو بناء درامي جيد مبدئيا لو سار بتركيز وانضباط ، الشخصيتان لا تلتقيان أبدا لكن الفيلم لا يلفت النظر لنفي قاطع بل يموه ذلك بسرد يفتح بذكاء احتمالات اللقاء، كلقطة لأدهم من الطائرة ينظر منها لأسفل بينما يركض “وطني” في إحدى المسارات الضيقة لحارته فارا من مطارديه المعتادين، بينما قد يكون الأمر تقاطع خيالي خادع للشخصيتين. تحمل لقطات تقديم الشخصيتين ومنها اللقطة السابقة مفارقات التضاد بين عالميهما، بين العلو والانخفاض برمزهما الطبقي الذي يدعمه حفر “وطني” تحت الأرض سعيا لكنز يأمله أو يتوهمه بوصف ذلك كل فرصته في النجاة من واقع بائس، بينما يحلق عادة أدهم فوق السحاب في إضاءة نهارية ساطعة تقابلها إضاءة ليلية بقنديل شحيح الضوء تصاحب حفر “وطني” في جامع أثري ساعياً إلى كنزه. هذا المعنى التقابلي التكاملي يبرز بوضوح على مدار الفيلم؛ المسيحي والمسلم.. الغني والفقير المرتبطان بنفس الخيط أو نفس الشخص؛ مسيحي ترتبط أحلامه بمسلم ويبحث عن كنزه في جامع عتيق ومسلم ترتبط حياته بل وخلاصه بمسيحي، مع تقابلات بصرية رمزية كضيق وبراح..علو وانخفاض، مع تركز صفات الضعف من فقر وحالة الأقلية في “وطني”، ليعكس ذلك مع اسمه ملمح تعاطف يقترن بأصالة يشير إليه الفيلم بالإضافة لاسم زوجته “مدينة ” التي أدت دورها زينة بشكل جيد يعكس طيبة وطرافة معا، هذا الميل الرمزي لربط الأنقى والأكثر أصالة وطرافة بالأضعف جاء نوعا من السطحية النمطية المتطرفة في انحيازها الفئوي والطبقي التي تجعل الأشياء إما بيضاء أو سوداء، وهو ما اصطبغ به الفيلم عموما وتوجته أغنية “التتر” الأخير الشعبية لأحمد شيبة وهاني عادل ” أنا من سكة وأنت في سكة” التي حظيت بكم من التطرف التصنيفي رغم جودة الكثير من كلماتها.
برغم تغذية حبكة الفيلم بشكل جيد مشوق كانت ذروتها في نقطة تبادل الأدوار والأماكن بين الشخصيتين وإيجاد مبرر سلس ومنطقي لها مع خبطة رأس “وطني”؛ إلا أنه في الشخصيتين اللتين أجاد عمرو سعد أداءهما، جاء رسم الشخصية الفقيرة أكثر إقناعا وثراء بالتفاصيل، وبحيوية قد تكون مقصودة بعكس الثرية التي كان يجب التأسيس الجيد لها والاهتمام بتفاصيلها وعالمها أيضا وإن اختلف، حيث عبء الإقناع الأكبر يتوقف عليها كطرف الأزمة الحقيقي، أما الربط بين الشخصيتين فقد وفق فيه الفيلم بإشارات خافتة ذكية تشير لتوحدهما كتعاقب وتكرار نفس الحركة من كل شخصية كلغة جسدية في مناطق من المونتاج المتوازي الذي يتنقل بينهما، وبرغم كثرة استخدام التصوير الفوقي وكثرة تنقل الكاميرا بين الاقتراب والابتعاد إلا أن تكنيك تسريع الصورة المفاجىء في لقطات “وطني” كان مؤثرا في إعطاء الإحساس بالتوتر والغموض، وكان يمكن للحبكة أن تستمر بشكل جيد لولا الإضافات المجانية لكل أجزائها مما ساهم في ترهلها والإحساس بعشوائيتها، فكثرة الأحداث الجانبية الهامشية أثقل الحبكة وسطّحها وجعلها إما غير قابلة للتصديق أو غير مفهومة مما أحدث تخبطا، كالإيحاء بخيانة “مدينة” وقتلها وخرس الطفلة والجنوح للإيحاء بغرائبيات في حين قدم الفيلم تفسيرا نفسيا واقعيا لما يحدث، مثلما هو تفسيره لاختفاء “جيلان” بدخولها فقط في حالة اكتئاب، إضافة لضعف العاطفة الضمنية الحقيقية للمشاهد التي لم يحققها الفيلم فلجأ إلى انتزاعها بشكل مبالغ وذلك باستخدام تعبيرات سطحية وموسيقى تصويرية بمغالاة شجنية تكاد لا تتوقف.
لم ينجح الفيلم أيضاً في تبرير الجنوح الشديد للعنف لدى أدهم بشكل مقنع ولا في تفسير أزمته التي تعد المدخل الأساسي للحبكة، بل بدت التبريرات متخبطة سواء بالإشارة لأزمة فقده لعائلته في حادث طائرة أو في تفسير الطبيب النفسي الصوفي لحالته، مرة لكونه يخترع المشاكل لأنه لا يمتلكها ومرة بأن لديه أزمة ضمير وأخرى يشير فيها لاحتمال ميتافيزيقي يعود لمبدأ “الكارما” الذي سنعود إليه حين يقول “قد نكون نحن أنفسنا غير موجودين”، بالإضافة لإغراق أدهم بالعقد الأخرى غير المضفرة جيدا في معالم شخصيته أو أزمته كخوفه الصارم من الاحتياج والضعف وكره الخيانة ليبدو إلها يقرر ويحاكم الخطايا الأخلاقية، إضافة لتفسير آخر وجودي يحيل الأمر لضعف طاقة الحب ضمن حالة ميتافيزيقية روحية تشير إليها “جيلان” التي أدت دورها سارة التونسي بضعف لا بأس به وحضور فاتر.
يشير الفيلم إلى قانون ” الكارما” الذي يشكّل عنوانه، وهو قانون الثواب والعقاب الكوني الذي قد يكمن في الإنسان نفسه أو يرصده الكون وفق ديانات بوذية وهندية وهندوسية، ثم جسده في طفلة اسمه ا”كارما” كمزيد من الرمزية المتوالدة، بشكل مزدوج بإقحام معنى رمزي مفتعل لسياق الفيلم ثم الرمز بالطفلة للرمز المفتعل، ما حمّل الفيلم بعدا أخلاقيا ووجوديا مفتعلا ومتعسفا يعد عبئا على الحبكة وإن بدا جذابا؛ فهل فساد أدهم المادي وعدم إحساسه بالعشوائيات يكفي لتفسير أزمته؟ وما علاقة ذلك بفقده لأهله وابنته في حادث بدأت بعده أزمته؟ وأين تاريخه الشخصي المؤثر في حالته؟ ولم يحلم نقيضه “وطني” بالكنز”ولم يظهر كادحا بحق وفق توجهه؟ وماذا أضاف عقل أدهم الباطن تكفيرا وتعويضيا لحياة وطني بثرائه؟ في الحقيقة تم استهلاك نواة الفكرة الجيدة حتى صارت شيئا متخبطا هشا مشتتا،مع وعظ مفرط مباشر كما لو كان الفيلم منبرا برلمانيا، حشد كل المشاكل والآفات الاجتماعية والسياسية كالطبقية والفساد السياسي والتعصب الديني والظلم الاجتماعي وغيرها وهو ما بدا واضحا في الطول االزمني للفيلم بل والجمع بين الأجناس الفنية المختلفة بتخبط، فهناك مزيج فانتازي نفسي بوليسي تراجيكوميدي لم يبتعد رغم ذلك عن الأسلوب التقليدي في شكله العام، في الوقت الذي خاض فيه خالد يوسف هذه الأنواع بشكل أكثر تماسكا وتوفيقا كفيلميه “ويجا” و”خيانة مشروعة “، فهل أفقدت لغة السياسة خالد يوسف لياقته الفنية؟