صادقتُ هيفيدار لسنتين، لم تدعني أقبّلها سوى مرة واحدة، و صادف أنها كانت تعالج سناً متعفنة حينها، فبقيت القبلة الوحيدة تلك، ذكرى عفونة خفيفة للعابها الكثيف مع طعم القرنفل الحاد الذي ينبعث من ضماد “الأوجينول” الذي يحشره أطباء الأسنان في كل شيء.
ظهيرة ذلك اليوم كانت تنتظرني في حديقة كلية الآداب، تأخرت عليها ربع ساعة وحين وصلت إلى ساحة الطب، ودخلت الممر الذي تحيط به أشجار الكينا، رأيتها تقرأ جريدة، ومقابلها على بعد متر كان رجل نحيف يرتدي قميصاً أسود وبنطال جينز أزرق، ما إن إقتربت منهما حتى تركها ومشى، و لم ألمح من ملامحه سوى وجهه المغبر مع ذقن خفيفة غير مشذبة، لذا حالما وصلتُ سألتها :
– مين هادا الجردون؟
دون أن ترفع هيفيدار رأسها أجابت بغيظ :
– جردون! دخيل الله مين بدو يكون.
بعدها بساعة كنا نتمشى أمام كلية العلوم حين أشارت هيفيدار إلى الخلف :
– انظر!
كان الجردون يجري مكالمة هاتفية من “الكولبة” العامة، ثم ترك السماعة وأخذ يتبعنا، أردت أن أقف لأكلمه لكنها أصرت أن نمشي لأنه قذارة وحسب. التففنا حول كلية الزراعة فالمعهد التجاري ثم مبنى التمريض فقسم الإسعاف في المشفى الجامعي و ظلَّ يتبعنا.
استقلينا أول “سرفيس” نحو مركز المدينة، وظننا أننا تخلصنا منه، لكن عند نزلة الهندسة انتبهت إلى أنه يستقل سيارة سوزوكي ويتبعنا، فخرجنا لنستغل الموقف المزدحم في الميريديان ونضيعه، لكن على بعد خمسين متراً كان ينتظرنا أمام محل للأزهار، فأخذنا نركض و هو خلفنا، ثم دخلنا بناء ضخماً، عبّارة كبيرة بأربعة مداخل كنت أشتري منه المواد الطبية من مستودع في الطابق الرابع، على الدرج كان قد أخرج مسدساً وصار يركض خلفنا، إستغلت وجود طلاب طب هناك، فدخلنا في دهليز فرعي فإلى مدخل آخر و بسرعة نزلنا الدرج، و في الشارع كنا نركض رغم أن لا أحد وراءنا، و لم توقفنا سوى يد عند المكتبة،
أمسكني من ذراعي و قال: بحق الجحيم، ماذا تفعلان؟
لقد كان باولو.
باولو كان برازيلياً، أتى إلى حلب متتبعاً تاريخ الطرق الصوفية وكان قد حصل على منحة مدتها سنتان دراسيتان من جامعة أمريكية ليحضّر فيهما أطروحة الدكتوراة، التقيت به في رحلة اسستكشاف في جبال الأكراد شمال حلب،
ال”هَشْ” كما كنا نسمي تلك الرحلات و لا أدري من أين أتت التسمية، كانت فكرته، ننقسم إلى فريقين، نتجول بين الجروف والصخور والأشجار، نصرخ واع واع واع، ننادي بأعلى ما نستطيع، نتتبع مسارات موسومة بإشارات من القماش الأصفر والأحمر والأخضر لنصل إلى كنز افتراضي يكون منظمو الرحلة قد خبأوه مسبقاً في جذع شجرة مثلاً أو خلف صخرة.
ذلك اليوم الذي ظهرت فيه يده كيدٍ إلهية آوتنا من الفزع الذي ألحقه بنا الجردون، كان باولو في عفرين وحضر اليوم الذي سبقه جلسة من جلسات الذكر التي يقيمها أتباع الشيخ عبد القادر الجيلاني. قال باولو بأن الجلسة بدأت بقرع بطيء على الدفوف والطبول وبدأ الشيخ الواقف وسط حلقة الدراويش بترديد “الله حي”، كان الشيخ يتمايل برفق ويغمض عينيه ويرفع يديه بالدعاء، والدراويش يتمايلون إلى الخلف والأمام وتنسدل شعورهم على وجوههم، ثم بدأ قرع الدفوف و الطبول يزداد أسرع أسرع و تراتيل الدعاء تعلو أعلى أعلى حتى دخل الدراويش في مرحلة النشوة، مرحلة الفناء.
حينها قام الشيخ بضرب الشيش في بطن مريد له من الجانب إلى الجانب الآخر ثم أخرجه دون ألم من المريد ودون نزف، و كل ما فعله الشيخ أن مسح ببصاقه مكان الغرز.
أحببت أن أقول شيئاً لكن باولو كان منهكاً كمن تلقى صدمة قال إنه قاوم كثيراً كيلا يغلق عينيه حين غرز الشيخ طرف الشيش في بطن المريد ثم أضاف:
إنه شيء فظيع لكنه يحدث.
كانت هيفي كما كنت أناديها قد نامت على كنبة في الصالة، أنا و باولو أحضرنا مازات وويسكي وكانت لينا قد عادت من السوق ومعها أكياس الخضروات والفاكهة.
بمجيء لينا أصبحنا في مزاج الحب، قالت هيفي أنها ستبيت الليلة معنا، ربما تنسى أمر الجردون، أما أنا فكنت معتاداً على مصاحبة باولو ولينا.
لينا كانت في الخامسة والثلاثين، تتقن العربية مثل باولو، و تحب أن تجرب كل شيء، أقامت لسنتين في بيروت ثم أتت مع وفد بلدها الدانمارك، لتشارك في مهرجان فنانات من العالم في بيت الشيباني الأثري، و بقيت في حلب.
كان باولو يحاول أن يفسّر، قال بأنه يحدث تصعيد وجداني في مجالس الذكر إلى أن يصل الشخص إلى مرحلة تنشيط الجهاز العصبي اللا إرادي، و يخرج من عالم الحس و التأثر إلى عالم التجرد من الإحساس، و لو تفحصنا حالة الإفرازات المعدية عند المريد لوجدنا أنها قد بلغت ذروتها، و هذه الإفرازات تقف حائلاً بين الإحساس بالألم بعد أن تكون قد عطّلت عمل الناقل للإحساس في العصب العاشر المتصل بالمعدة.
أرادت لينا أن تغيّر مجرى الحديث فأتت من المطبخ و هي تكرع زجاجة البيرة وتردد بشكل مسرحي: نكون أو لا نكون، تلك هي المسألة.
كان هاملت بطلي المفضل وكنت قد كتبت تحليلين عنه في مجلة طلابية يسارية كنت أعمل محرراً فيها، كانت لينا تعرف ذلك، قلت للينا: هل شكّ هاملت في عمّه قبل مقتل الأب؟ قالت لينا بأن الأم تبقى صالحة وطيبة ما دامت تعد لنا الفطور وتدفئ لنا الجوارب، و كل منا يرى أمه قحبة حين يتخيلها في فراش الأب، فكيف سيراها حين يجدها في فراش أحدٍ آخر؟ قلت مخاطباً لينا، في المشهد الذي يقتل فيه هاملت بولونيوس، لماذا تبدّا شبح الأب لهاملت ولم تره الملكة بخلاف ما حدث في شرفة القلعة حين رآه هاملت وكل من كان هناك: هوراشيو ومرسيلوس وبرناردو؟ ثم تبادلنا حواراً كنا نفضله بين هاملت والملكة :
يا ويحكِ إنك تسألين بلسانٍ خبيث،
دع العبث إنكَ تجيبني بلسانٍ طائش،
ثم أخذت أساعدها في تحضير وجبة العشاء، و بعد العشاء قالت بحماس بأننا سنشاهد فيلماً عظيماً ثم شغّلت لنا فيلم “كويلز” الذي مثل فيه جيفري رش دور ماركيز دو ساد. في منتصف الفيلم وبينما كانت لينا تجلس إلى جانب باولو وتحضن ظهره واضعة يديها على ركبتيه، أتت هيفي وجلست على طرف الكنبة حيث كنت أجلس، لففتها بذراعي وحينئذ نظرت في عيني، قبلتني وتركت في فمي رائحة العفونة الخفيفة مع طعم “الأوجينول”.
وفي ختام المشهد الذي يُمنع فيه ماركيز من وصول الحبر والأرياش إليه و يبدأ بالكتابة على الشراشف والملاءات بإصبعه المغموسة في الخراء كي يكمل روايته و يهرّبها عن طريق الخادمة إلى المطبعة خارج السجن، قالت لينا موجهة كلامها إلي:
انظر محمد، يجب ألا نتخلى عما نمتلكه بسهولة!
عند انتهاء الفيلم قالت لينا ما سيجعلنا نتذكرها إلى الأبد: سنلعب لعبة أرجو أن نشترك بها جميعاً.
ثم أجلستنا على الأرض، أحضرت زجاجة البيرة بعد أن أنهت ما فيها، وجلست لنلعب بأن يدير كل منا الزجاجة، وحين تتوقف يبدأ من تتجه إليه فوهة الزجاجة بخلع قطعة من الثياب. قالت إنهم كانوا يلعبونها في دار الطلبة، و ربما استمدتها من فيلم “بورنو”. حاولت أن أبرر لها بأنني لن أتحكم بنفسي، لكنها وضعت سبابتها على فمي وقالت : ششش، هذه لعبة!
أخذت الزجاجة تدور، ونحن نضحك. بدأ باولو بنزع ثيابه، ثم هيفي التي حين بقيت بالسوتيان والكيلوت قالت: آسفة! لن أستطيع أن أكمل! فقالت لينا: حسناً! أنا سأخلع نيابةً عنكِ أيضاً، أنتِ أديري الزجاجة فقط.
بعد ما يقارب ساعة كنا عراة وسكارى فيها وكلٌّ على طريقته، كانت هيفي على الكنبة وقد ارتدت كامل ثيابها تشاهد التلفاز، باولو كان هادئاً وديعاً و كأنه بكامل ثيابه، فيما كنت أداري انتصاب حيواني بلفّ ساقٍ على ساق، أشارت لينا إلى باولو أن يقوم ويرتدي ثيابه ويهتم بالمسكينة، ثم أمسكت بحيواني وقالت وهي تضحك وتجرني إلى الغرفة الداخلية: أيها الثرثار، سأعلمك كيف خانت الملكة الأب مع شقيقه وتركت الجرو هاملت يعوي على أبراج القلعة مع أسئلته الغبية.
ثم بفمها أغلقت فمي، وبكاحلها أغلقت الباب.
منذ يومين، بعد أكثر من اثنتي عشر سنة التقيت بهيفيدار مصادفة في أول يوم لي في اسطنبول، كانت ترتدي فيزوناً أسود شمّرت عن إحدى ساقيها إلى فوق الركبة، تنتقي الخضروات من محل كبير في جادة أحمد عارف بمحلة آسان يورت قالت مشيرة إلى ساقها : و لا يهمك، جرحُ شظيةٍ طائشة في الأشرفية، قديم من سنتين بس التهب مكانو من إسبوع.
دلتني على بيتها في الطابق الأرضي قرب مدرسة ما. كانت تعمل عاملة “أمبلاج” في ورشة خياطة، تدخن بشراهة، قالت إنها تنتظر دعوة لمّ الشمل من أخيها بألمانيا، وريثما يتم ذلك تحضر مرة كل شهر محفلاً ماسونياً مع نخبة من المسيحيين واليهود والروم، ثم أحضرت شنطة كبيرة مليئة بمنشورات حزبية كثيرة، كلها تريد تغيير هذا العالم اللعين.
صباح هذا اليوم استقلينا المترو نحو ساحة “أكسراي” لتدلني على مهربين وأتفق مع أحدهم لتأمين طريق لي إلى اليونان أو الدانمارك مباشرة.
في محطة المترو أرتني على “موبايلها” مقطع فيديو يظهر كيف يجزون رأس أحدهم و يهللون الله أكبر. لم أستطع إكمال المشهد، قالت : أيعقل هذا؟ أجبتها بما كان يقول باولو :
إنه شيءٌ فظيع لكنه يحدث!
قبل أن نستقل “الترامواي”، أخذنا نتمشى في “شوارع فاتح” المحيطة بكنيسة “آيا صوفيا” و “جامع السلطان أحمد” التي تعيدها إلى حارات حلب القديمة.
كانت تمطر منذ ثلاثة أيام، هيفي تستند علي ربما لتخفف الضغط عن ساقها وكان “الترامواي” يمضي بنا في ليل اسطنبول، ونحن نلتفت بين حين وآخر للخلف من دون أن نلحظ شبح أحد ما يتبعنا.
____________________________
كاتب من سورية
الصورة من أعمال التشكيلي السوري جوني سمعان
****
خاص بأوكسجين